الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَا هُوَ شَهْرُ الْخَيْرِ وَالْجُودِ قَدْ أَذِنَ بِالرَّحِيِلِ، وَفِي رَحِيلِهِ وَقْفَةُ تَأَمُّلٍ وَتَفَكُّرٍ؛ تَأَمُّلٌ فِي سُرْعَةِ مُرُورِ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، فَبِالأَمْسِ الْقَرِيبِ كَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ بِكُلِّ شَوْقٍ وَحَنِينٍ وَرَغْبَةٍ وَلَهْفَةٍ، ثُمَّ مَضَى سَرِيعًا وَانْقَضَى، وَهَكَذَا عُمْرُ الإِنْسَانِ، فَكُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُ أَعْمَارِنَا حَتَّى تَذْهَبَ كُلُّهَا .

إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا



وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ


فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا



فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ فِي الْعَمَلِ



رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ : «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» [صححه الألباني].
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ وَتَعْرِيفٌ عَلَى مَوَاطِنِ الاِسْتِفَادَةِ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ، وَاغْتِنَامِ الْفُرَصِ فِيهَا ، وَأَنَّ هَذِهِ الْخَمْسةَ لاَ يَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلاَّ مَنْ فَقَدَهَا.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ» [صححه الألباني].
وَنَحْنُ -وَللهِ الْحَمْدُ وَالْفَضْلُ وَالْمِنَّةُ- قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِإِدْرَاكِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَوْدَعْنَاهُ مِنَ الْعَمَلِ مَا أَوْدَعْنَاهُ، وَالَّتِي نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَتَقَبَّلَهَا .
فَأَعْظَمُ مَا تُفْنَى بهِ الأَعْمَارُ، وَأَطْيَبُ مَا يَرْجُوهُ الْمُؤْمِنُ هُوَ : التَّوْفِيقُ لِحُسْنِ الْعَمَلِ وَقَبُولِهِ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَ‌حْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَ‌حُوا هُوَ خَيْرٌ‌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]، فَلاَ قِيمَةَ لِمَالٍ وَلاَ زُخْرُفٍ، وَلاَ وَلَدٍ وَلاَ مَكَانَةٍ، وَلاَ عُمْرٍ وَلاَ عَيْشٍ إِلاَّ مَا كَانَ للهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُنَا –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : «اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَةِ» [متفق عليه]
فَلَحَظَاتُ الصَّالِحَاتِ هِيَ أَحْسَنُ لَحَظَاتِ الْحَيَاةِ، بَلْ هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقَّةُ نَفْسُهَا الَّتِي يَعِيشُهَا الصَّالِحُونَ، فَلَيْسَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا ثَمَّةَ سَعَادَةٌ إِلاَّ فِي رِضَا اللهِ سُبْحَانَهُ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، سَوَاءً أَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً مَأْمُورَةً أَمْ عِلْمًا يُنْتَفَعُ بِهِ أَمْ إِصْلاَحًا فِي الأَرْضِ أَمْ دَعْوَةَ خَيْرٍ وَصَلاَحٍ.
وَالْمُؤْمِنُ النَّاصِحُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ إِتْقَانِ الْعَمَلِ، وَمُلاَزَمَةِ الاِسْتِغْفَارِ فِي خِتَامِهِ! جَبْرًا لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْصٍ وَتَقْصِيرٍ؛ فَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ لِهَذَا بِقَوْلِهِ فِي آيَاتِ الْحَجِّ: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحج: 199]، قَالَ الشَّيْخُ السِّعْدِيّ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الآيَةِ: وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ عِبَادَةٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ عَنِ التَّقْصِيرِ، وَيَشْكُرُهُ عَلَى التَّوْفِيقِ، لاَ كَمَنْ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ الْعِبَادَةَ وَمَنَّ بِهَا عَلَى رَبِّهِ، وَجَعَلَتْ لَهُ مَحَلاًّ وَمَنْزِلَةً رَفِيعَةً، فَهَذَا حَقِيقٌ بِالْمَقْتِ وَرَدِّ الْعَمَلِ، كَمَا أَنَّ الأَوَّلَ حَقِيقٌ بِالْقَبُولِ وَالتَّوْفِيقِ لأَعْمَالٍ أُخَرَ. اهـ.
وَهَذَا الاِسْتِغْفَارُ ثِمَارُهُ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى أَهْلِهِ لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى فِي تَتْمِيمِ أَعْمَالِهِمْ وَجَبْرِ تَقْصِيرِهِمْ، وَرِفْعَةِ مَقَامِهِمْ، كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الاِسْتِغْفَارُ يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنَ الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْفِعْلِ الْمَحْبُوبِ، مِنَ الْعَمَلِ النَّاقِصِ إِلَى الْعَمَلِ التَّامِّ، وَيَرْفَعُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَقَامِ الأَدْنَى إِلَى الأَعْلَى مِنْهُ وَالأَكْمَلِ، فَإِنَّ الْعَابِدَ للهِ وَالْعَارِفَ بِاللهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، بَلْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، بَلْ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَزْدَادُ عِلْمًا بِاللهِ وَبَصِيرَةً فِي دِينِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ بِحَيْثُ يَجِدُ ذَلِكَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، إِلَى آخِرِ كَلاَمِهِ رَحِمَهُ اللهُ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَ الْجَمِيِعِ الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ، وَأَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَانَ أَعْوامًا عَدِيِدَةً ، وَأَزْمِنَةً مَدِيِدَةٍ ؛ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَوَاسِمَ الطَّاعَاتِ لاَ تَنْتَهِي إِلاَّ بِمَوْتِ الإِنْسَانِ، وَمِنَ الإِحْسَانِ لِمَنْ أَمَدَّ اللهُ بِعُمْرِهِ مُتَابَعَةُ الإِحْسَانِ، وَطَاعَةُ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ؛ وَمِنْ مَسَالِكِ الإِحْسَانِ فِي خِتَامِ شَهْرِكُمْ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَهِيَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَعَطْفٌ وَأُلْفَةٌ، فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طُهْرَةً لِلصَّائِمِ، وَطْعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، وَهِيَ صَاعٌ مِنْ طَعَامِ قُوتِ الْبَلَدِ، وَوَقْتُ إِخْرَاجِهَا الْفَاضِلُ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ صَلاَةِ الْعِيدِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَأَخْرِجُوهَا طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ، وَأَكْثِرُوا مِنَ التَّكْبِيرِ لَيْلَةَ الْعِيدِ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدِ، تَعْظِيمًا للهِ، وَشُكْرًا لَهُ عَلَى التَّمَامِ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:185].
فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَاشْكُرُوه عَلَى تَمَامِ فَرْضِكُمْ، وَلَازِمُوُا العَمَلَ الصَّالِحَ دَهْرَكُمْ. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ -‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].