الخطبة الأولى : حصول البركة 13 / 5 / 1443
الحمد لله ﴿الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ‌مِنْ ‌بَعْدِ ‌مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾، ونشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأن مُحمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وأزواجِه وأصحابِه، والتابعينَ لهم بإحسانٍ.
أما بعدُ: عباد الله: اتقوا الله تعالى وراقبوه وأطيعوه، وعظِّموا أمره ولا تعصوه، وتزينوا بلباس التقوى، وتقربوا إليه بما يحب ويرضى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ ‌مُسْلِمُونَ﴾. أيها المسلمون: البركة زيادةٌ في الخير، يضعها الله تعالى بحكمتِهِ حيث يشاءُ، فقد بارك على إبراهيمَ وإسحاقَ عليهما السلام: ﴿‌وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾، وبارك في عيسى عليه السلام، يقول عن نَفْسِه: ﴿‌وَجَعَلَنِي ‌مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾. وكما ترتبط البركة بالأشخاص، فإنها ترتبط بالأماكن، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ‌لَلَّذِي ‌بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾، ومِن بَرَكَةِ هذا البيت أن الله سبحانه قَدَّر أن يكون داخِلُه آمِنًا، ومُثَابًا بِحَسَبِ نِيَّتِه، وقَدَّر لمجاوِرِيه وسُكَّانِه أنْ يكونوا مُحَصِّلينَ لزيادةِ الثوابِ؛ لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ». وقَدَّر أن يكون لِساكنيه والمقيمين فيه رفاهية الحالِ، فقال: ﴿‌يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾، وهذه بعضُ صورِ بركةِ البيتِ العتيقِ. وقد أخبر الله تعالى عن القرآن أنه مباركٌ، فقال سبحانه: ﴿‌وَهَذَا ‌كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، وقد جُعِلتْ بركتُه في ألفاظِه، وفي ما أَودَعَه اللهُ لقارئهِ مِن خيرٍ في الدنيا والآخرة، ولأنَّ الارتباطَ بهِ، والعَمَلَ بما فيهِ سَبَبٌ لِصَلاحِ النَّفْسِ وتَزكِيَتِها، وقد جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ تعالى أنَّ المتَمَسِّكَ بهِ يحْصُلُ له عِزُّ الدنيا، وسَعَادَةُ الآخرةِ.
عباد الله: البركة قد تكون أمرًا محسوسًا يراه الناس، وقد تكون أمرًا معنويًا يشعرون بآثاره، كتقوى الله؛ حيث قال سبحانه: ﴿‌وَلَوْ ‌أَنَّ ‌أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾. وبقدر تحقيق الإيمان والتقوى تحصل البركة، وبقدر البعد عنهما تَقِلُّ حتى تُمحَق. ومِن الأمور المباركة التي جعلها الله سبحانه سببًا لخيرات كثيرة الأمطارُ، فقال سبحانه: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾، وتأَخُّرُ نزولها مُؤذِنٌ بِتَخَلُّفِ البركة في أمورٍ كثيرة، وفيه إشارةُ تحذيرٍ للعِبَادِ؛ لِيتَلَمَّسُوا أسبابَ ذلكَ، حتَّى لا تُمحَقَ بركتُهم شيئًا فشيئًا.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَتَابَ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد: أيها المسلمون: أُوصيكم ونَفسِي بتقوى الله تعالى، واعلموا رحمكم الله أنَّ غيابَ الأمطارِ مِنْ مَظَاهِرِ فُقدَانِ البركةِ، ومِن خِلال ذلك يَتَنَبَّهُ المُوَفَّقُ إلى حالِ البركةِ في أمورٍ أخرى كالرزقِ، والوقتِ، والصحةِ، والمالِ، والولدِ، ويبحثُ عن أسبابِ وجودِها لِيُحَقِّقَهَا، وعن أسبابِ انعدامِها ليتوقَّاها. فغيابُ البركةِ في كثيرٍ مِن مظاهرِ الحياة مُصيبةٌ نَبَّهَنَا رَبُّنَا على أَسبَابِهَا، وطُرُقِ عِلاجِها، فقال سبحانه: ﴿ ‌وَمَا ‌أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾. فكل مصيبةٍ تقع على البلاد أو العباد، ينبغي أن تكون باعثةً للعِبَادِ لملاحظةِ أحوالهم، ومحاسبةِ أنفسِهِم.
أيها المؤمنون: أَقبِلُوا على ربِّكم، وارجوا رحمتَه، ملتمسين عَطَاءَه ﴿ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ ‌غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾. اللَّهُمَّ أنْتَ اللهُ لا إله إلَّا أنتَ، أَنْتَ الغَنِيُّ ونَحْنُ الفُقَرَاءُ، ‌أنْزِلْ ‌عَلَيْنَا الغَيْثَ، وَاجْعَلْ ما أَنْزَلْتَ لنا قُوَّةً وبَلَاغًا إلى حِينٍ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، مَرِيئًا مَرِيعًا، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ، اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ نرْجُوا، فَلَا تَكِلْنا إِلَى أَنفُسِنا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لنا شَأْنَنَا كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.

ثم اعلموا رحمكم الله أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على نبيكم ورسولكم محمد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واكفنا شَرَّ المُعتَدِين، واخذُل أعداءَ الدين، اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاةَ أمورِ المسلمين عامة، وولاةَ أمورِنا خاصة، وارزقهم البِطَانَةَ الصالِحَةَ الناصحةَ، اللهم انصر إخوانَنَا المجاهدين في سبيلك، اللهم إنا نعوذ بك مِن الغلاءِ والبلاءِ والوباءِ والربا والفِتنِ والفواحشَ ما ظهر منها وما بطن، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ووالدينا وأهلينا والمسلمين والمسلمات.
عباد الله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }، فاذكروا الله العظيمَ يذكركم، واشكروه على عمومِ نعمه يزدكم، ولذكرُ الله أكبرُ، واللهُ يَعلَمُ ما تَصنَعُونَ.