الْخُطْبَةُ الْأُولَى: سعة رحمة الله تعالى 14/4/1443
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
أمَّا بَعْدُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ لُطْفِ اللهِ بِنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾، أي:وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِن العالمِ العُلوِي والسُّفلِي، البَرَّ والفاجِرَ، المؤمِنَ والكافرَ، فلا مخلوقَ إلا وقد وَصَلَت إليهِ رحمةُ اللهِ، وغَمَرَهُ فَضلُهُ وإحسَانُهُ، ولكنَّ الرحمةَ الخاصةَ المقتَضِيَةِ لسعادةِ الدنيا والآخرة، ليست لِكلِّ أَحَدٍ، ولهذا قال عنها سبحانه: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي: يتقون المعاصيَ، صِغارَها وكِبارَها. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَامْتِنَانًا. وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي». وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ». قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ الله: هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الرَّجَاءِ وَالْبِشَارَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا كَانَ حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَةٍ وَاحِدَةٍ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ وَالصَّلَاةُ وَالرَّحْمَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ؛ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمِائَةِ رَحْمَةٍ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ وَدَارُ الجَزَاءِ، وَاللهُ أَعْلَم.
عِبَادَ اللهِ: ثَبَتَ في الحديث الصحيح أنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى خَلْقِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ، وَيَدْنُو مِنْهم مَتَى مَا دَنَوْا منه، فَإِذَ قَرُبْتَ يا عبدَاللهِ مِنْهُ شِبْـرًا قُرُبَ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ أَتَيْتَهُ مَاشِيًا أَتَاكَ مُهَرْوِلًا، وَيَقْبَلُكَ مَتَى تُبتَ إِلَيْهِ، وَيَذْكُرُكَ إِذَا ذَكَرْتَهُ. فبادِر يا عبدالله لِطَلَبِ ما عِند اللهِ مِن الرحمة والفضلِ والفوز العظيم عسى أن يَرحَمَكَ بِرَحمَتِه.
عِبَادَ اللهِ: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»، في هذا الحديثِ حَضٌّ عَلَى بَذلِ الرَّحْمَةِ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، الْمُؤْمِنينَ وَالْكَافِرينَ وَالْبَهَائِمَ. فمَن كان رحيماً بغيره فقد بَذَلَ سبباً لرحمةِ اللهِ له، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ والمُسلِمَاتِ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.





الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.
عِبَادَ اللهِ: قال السَّعدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: في تفسير قوله تعالى: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ أي: العالمُ العُلْوِيُّ والسُّفلِيُّ تحتَ مُلْكِهِ وتَدبِيرِهِ، وهو تعالى قد بَسَطَ عليهم رحمَتَهُ وإحسَانَهُ، وتَغَمَّدَهُم بِرَحمَتِهِ وامتِنَانِه، وكَتَبَ على نَفسِهِ كِتَابَاً أنَّ رَحمَتَهُ تَغلِبُ غَضَبَهُ، وأنَّ العَطَاءَ أَحَبُّ إليه مِن المنعِ، وأنَّ اللهَ قد فَتَحَ لجميعِ العِبَادِ أبوابَ الرحمَةِ، إنْ لم يُغلِقُوا علَيهِم أَبوَابَهَا بِذُنُوبِهِم، ودَعَاهُم إليها، إنْ لم تَمنَعهُم مِن طَلَبِهَا مَعَاصِيهم وعُيُوبُهُم.
ثم اعلموا رحمكم الله أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على نبيكم ورسولكم محمد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واكفنا شَرَّ المُعتَدِين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاةَ أمورِ المسلمين عامة، وولاةَ أمورِنا خاصة، ووفقهم لما تُحِب وتَرضَى، وارزقهم البِطَانَةَ الصالِحَةَ الناصحةَ، اللهم انصر إخوانَنَا المجاهدين في سبيلك، اللهم إنا نعوذ بك مِن الغلاءِ والبلاءِ والوباءِ والربا والفِتنِ والفواحشَ ما ظهر منها وما بطن، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ووالدينا وأهلينا والمسلمين والمسلمات.
عباد الله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }، فاذكروا اللهَ العظيمَ يَذكُركُم، واشكُرُوه على نِعَمِه يَزِدكُم، وَلَذِكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يَعلَمُ ما تَصنَعُونَ.