الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ذَنْبٌ كَبِيرٌ، وَشَرٌّ مُسْتَطِيرٌ، وَدَاءٌ عُضَالٌ، تَفَشَّى بَيْنَ أَطْيَافِ الْمُجْتَمَعِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ تَعَالَى؛ إِنَّهُ السِّحْرُ قَرِينُ الْكُفْرِ؛ الَّذِي هُوَ خَطَرٌ عَلَى عَقِيدَةِ الأَفْرَادِ وَالأُسَرِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، فَضْلاً عَنْ صِحَّتِهِمُ الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَمُكْتَسَبَاتِهِمُ الْمَالِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 102].
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ». وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَك،َ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ».
وَرَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ». وَالسِّحْرُ عَزَائِمُ وَرُقًى وَعُقَدٌ شَيْطَانِيَّةٌ، تُؤَثِّرُ فِي الأَبْدَانِ وَالْقُلُوبِ، وَتُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْوَلَدِ وَأَبِيهِ وَأَخِيهِ وَصَدِيقِهِ، تَجْلِبُ الآفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ، وَالأَوْهَامَ الْمُزْعِجَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ شَيْءٌ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ﴾ [البقرة:102].
وَالْعَجَبُ مِنْ أُنَاسٍ جُهَّالٍ الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ حَالُ السَّحَرَةِ الْكَذَّابِينَ، وَدَجَلُ الْمُشَعْوذِينَ، فَتَحَيَّرُوا فِيمَا يَصْدُرُ مِنَ السَّحَرَةِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ؛ كَعِلْمِهِمْ لِلْغَيْبِ فِيمَا يَدَّعُونَ، وَشِفَائِهِمْ لِبَعْضِ الْحَالاَتِ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ شِفَاءَهَا قَبْلَ إِتْيَانِهِ لِلسَّاحِرِ.
وَكَيْفَ يُرْجَى السَّبَبُ فِي الشِّفَاءِ مِنْ عَدِيمِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ وَالْمُرُوءَةِ، الَّذِينَ تَلَبَّسَ الشَّيْطَانُ بِهِمْ؛ فَأَصْبَحُوا خُدَّامَهُ وَمُرِيدِيهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن: 6].
وَاعْلَمُوا يَا عِبَادَ اللهِ أَنَّ مِنْ عَلاَمَاتِ السَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ: سُؤَالَهُمُ الْمَرْضَى عَنْ أَسْمَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَطَلَبُهُمْ مِنْهُمْ أَشْيَاءَ غَرِيبَةً؛ كَأَخْذِ أَثَرٍ مِنْ شَخْصٍ لِسِحْرِهِ، أَوْ ذَبْحِ حَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ دُونَ ذِكْرِ اسْمِ اللهِ عَلَيْهِ، أَوْ إِعْطَاءِ الْمَرِيضِ حُجُبًا وَطَلاَسِمَ غَيْرَ مَعْرُوفَةٍ.
وَمِنْ عَلاَمَاتِهِمْ: تِلاَوَةُ كَلِمَاتٍ غَيْرِ مَفْهُومَةٍ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ عَلَى الْمَرِيضِ، وَرُبَّمَا مَوَّهَ عَلَى هَذَا الْمَرِيضِ فَقَرَأَ بَعْضَ الآيَاتِ بِصَوْتٍ عَالٍ ثُمَّ خَفَضَ صَوْتَهُ فِي الْبَاقِي، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَأْمُرُ الْمَرِيضَ بِأَنْ يَعْتَزِلَ النَّاسَ فَتْرَةً مُعَيَّنَةً فِي غُرْفَةٍ لاَ تَدْخُلُهَا الشَّمْسُ، وَأَحْيَانًا يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لاَ يَمَسَّ الْمَاءَ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ يُعْطِيهِ أَشْيَاءَ يَدْفِنُهَا فِي الأَرْضِ أَوْ أَوْرَاقًا يُحْرِقُهَا وَيَتَبَخَّرُ بِهَا، وَأَحْيَانًا يُخْبِرُ السَّاحِرُ الْمَرِيضَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ بَلَدِهِ وَمُشْكِلَتِهِ الَّتِي جَاءَ مِنْ أَجْلِهَا بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ الْمَرِيضُ ذَلِكَ، كُلُّ هَذِهِ أَمَارَاتٌ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَاحِرٌ يَتَعَامَلُ مَعَ الْجِنِّ، وَالْعَجِيبُ أَنَّ النَّاسَ يُسَمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا بِالشَّيْخِ أَوِ الْفَقِيهِ أَوِ الْمُعَالِجِ الرُّوحَانِيِّ وَهُوَ مُعَالِجٌّ شَيْطَانِيٌّ يَسْلُبُ عَقِيدَةَ الْمَرِيضِ؛ كَمَا رَوَى أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» [رواه مسلم]. اللَّهُمَّ زِدْنَا بَصِيرَةً فِي دِينِنَا وَعَقِيدَتِنَا أَجْمَعِينَ، وَارْزُقْنَا ثَبَاتًا عَلَى الدِّينِ، وَقِنَا شَرَّ الْفِتَنِ الْمُضِلَّةِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ عِلاَجَ السِّحْرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِكَمَالِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3].
وَكَذَلِكَ التَّحَصُّنُ بِتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنْوَاعِ الذِّكْرِ الصَّحِيحَةِ صَبَاحًا وَمَسَاءً؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ؛ فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ».
قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَغَنِي أَنَّ البَطَلَةَ: السَّحَرَةُ.
وَمِنَ الْوِقَايَةِ مِنَ السِّحْرِ وَالسَّحَرَةِ: تَحْرِيقُ كُتُبِهِمْ، وَحَجْبُ قَنَوَاتِهِمْ، وَمَوَاقِعِهِمْ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُمْ، وَالإِبْلاَغُ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا الْوِقَايَةُ مِنَ السِّحْرِ بَعْدَ وُقُوعِهِ؛ فَبِصْدِقِ الاِلْتِجَاءِ إِلىَ اللهِ، مَعَ الصَّبْرِ، وَالاِحْتِسَابِ وَإِخْلاَصِ الدُّعَاءِ، وَطَرْقِ الأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الاِسْتِشْفَاءِ كَالرُّقْيَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْمَسْحُورِ، وَقِرَاءَةِ آيَاتِ الرُّقْيَةِ، وَآيَاتِ السِّحْرِ وَالأَذْكَارِ وَالأَدْعِيَةِ بِمَاءٍ أَوْ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْهُ الْمَسْحُورُ وَيَغْتَسِلُ بِبَاقِيهِ، وَقَدْ جُرِّبَ وَنَفَعَ بِإِذْنِ اللهِ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم.