خطبة جمعة
بعنوان

( خطر الكهانة والتحذير من الكهان )
23 / 3 / 1443
(د. محمد العبيدي )


الخطبة الأولى
الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِم بِإِحْسَانٍ.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ فَاتَّقُوا اللهَ القَائِلَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
أيُّهاَ المُؤْمِنُونَ: مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْنَا أَنْ هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ؛ الذِي بِهِ حِمَايَةُ العُقُولِ وَصِيَانَتُهَا، وَحِفْظُ الشَّرِيعَةِ وَرِعَايَتُهَا ، وَمِمَّا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّحْذِيرِ مِنْ إِتْيَانِ الكُهَّانِ، أَوْ تَصْدِيقِهِمْ، أَوْ سَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ خَطَرٌ عَلَى عَقِيدَةِ الإِنْسَانِ، وَخَطَرٌ عَلَى فِكْرِهِ وَعَقْلِهِ. فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقّاً؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ، يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ» وَمَعْنَى: (فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ) أَيْ : يُرَدِّدُهَا الجِنِّيُّ فِي أُذُنِ صَاحِبِهِ الإِنْسِيِّ. وَمَعْنَى: (قَرَّ الدَّجَاجَةِ) كَصَوْتِهَا إِذَا قَطَّعَتْهُ، وَالْقَرُّ هُوَ تَرْدِيدُ الكَلَامِ فِي أُذُنِ المُخَاطَبِ حَتَّى يَفْهَمَهُ. نعم!! هَذِهِ حَالُهُمْ إِنَّهُمْ أَهْلُ كَذِبٍ وَدَجَلٍ وَتَلْبِيسٍ، بَلْ إِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الخَلْقِ افْتِرَاءً وَكَذِباً وَدَجَلًا وَتَلْبِيسَاً. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ ابْنِ الحَكَمِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: (فَلَا تَأْتِهِمْ). وَرَوَى البَزَّارُ فِي مُسْنَدِهَ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ الحُصَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطِيَّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكِهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ). وَلَا يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلاَمُ (لَيْسَ مِنَّا) إِلَّا فِي عَظَائِمِ الإِثْمِ وَكَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
أَيُّهاَ المُؤْمِنُونَ: لَا يَجتَمِعُ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ إِيمَانٌ بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ وَتَصْدِيقٌ بِهَؤُلاَءِ الكَهَنَةِ الدَّجَّالِينَ، وَلِهَذَا رَوَى أحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً». والعَرَّافُ الذِي جَاءَ ذَمُّهُ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ: هُوَ مَنْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُمُورِ، وَمَا يَجُولُ فِي الُّصُدُورِ، وَمَا يَقَعُ فِي المُسْتَقْبَلِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ أُمُورٍ غَائِبَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقَةٍ كَانَتْ، سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِي النُّجُومِ، وَيُقَالُ لَهُ « المُنَجِّمُ »، أَوْ بِالخَطِّ فِي الأَرْضِ وَالطَّرْقِ فِي الحَصَى وَيُقَالُ لَهُ «الرَّمَّالُ»، أَوْ بِأَيِّ طَرِيقَةٍ كَانَتْ فَإِنَّهُ يُصِيبُهُ هَذَا الذَّمُ، وَيَطُولُهُ هَذَا التَّحْذِيرُ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَالوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ تَكُونَ عَقِيدَتُهُ فِي هَذَا البَابِ رَاسِخَةً بِأَنَّ الغَيْبَ لَا يَعلَمُهُ إِلاَّ اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾. بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَتَابَ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.


الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محُمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: إِنَّ هَؤُلِاءِ الكَهَنَةَ وَالعَرَّافِينَ ضَرَرُهُمْ عَلَى المُجْتَمَعَاتِ ضَرَرٌ بَالِغٌ وَجَسِيمٌ، وَهُمْ يَتَكَاثَرُونَ فِي المُجْتَمَعَاتِ التِي يَقِلُّ فِيهَا مَعْرِفَةُ الإِعْتَقِادِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ القَوِيمِ، فَمَتَى كَثُرَ فِي مُجْتَمَعٍ مِنْ المُجْتَمَعَاتِ الجَهْلُ بِدِينِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَثُرَ هَؤُلَاءِ الأَفَّاكُونَ الدَّجَّالُونَ، فَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ دِينِ اللهِ، وَيَأكُلُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالبَاطِلِ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ غَايَاتِهِمْ وَأَكْبَرِ مَقَاصِدِهِمْ. فَالوَاجِبُ الحَذَرَ وَالتَّحْذِيرَ مِنْهُمْ ، وَأَنْ يَكُونَ المُسْلِمُ نَبِهاً حَصِيفاً حَذِرًا مِنْ إِفْكِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ وَدَعَاوِيهِمْ البَاطِلَةِ الظَّالِمَةِ.
وَأَمَّا الكَهَنَةُ وَالعَرَّافُونَ فَإِنَّ جَرِيمَتَهُمْ عُظْمَى، وَمُصِيبَتَهُمْ كُبْرَى، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَقِّ مَنْ أَتَاهُمْ : إِنَّهُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَإِنَّهُ قَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا إِلَى اللهِ تَعَالَى. أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَحْفَظَنَا جَمِيعاً بِحِفْظِهِ، وَأَنْ يُصْلِحَ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الحَقِّ، وَلَا يَكِلَنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَنْ يَكْفِيَنَا شَرَّ مَنْ بِهِ شَرٌّ.
ثُمَّ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ اللهَ تَعَالىَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلَامِ عَلَى نَبِيِّكُمْ وَرَسُولِكُمْ محُمَّدٍ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾، اللهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ. اللهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ، اللهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا وَوُلَاةَ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، وَوَفِّقْهُمْ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا المُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِنَا، اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الغَلَاءِ وَالبَلَاءِ وَالوَبَاءِ وَالرِّبَا وَالفِتَنِ وَالفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَوَالدِينَا وَأَهْلِينَا وَالمُسْلِمِينَ.
عِبَادَ الله: اذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.