الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ لِلَّهِ ربِّ الْعَالَمِينَ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وأشكرُهُ عَلَى نِعمةِ الأَمْنِ والدِّينِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَقَائِدُ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الأَمْنُ مَطْلَبٌ عَزِيزٌ وَكَنْزٌ ثَمِينٌ؛ إِذْ هُوَ قِوَامُ الْحَيَاةِ الإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا، تَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَتَتَسَابَقُ لِتَحْقِيقِهِ السُّلُطَاتُ، وَتَتَنَافَسُ فِي تَأْمِينِهِ الْحُكُومَاتُ، فَهُوَ مَطْلَبٌ يَسْبِقُ طَلَبَ الْغِذَاءِ، فَبِغَيْرِهِ لاَ يُسْتَسَاغُ طَعَامٌ، وَلاَ يَهْنَأُ عَيْشٌ، وَلاَ يَلَذُّ نَوْمٌ.
فَالنُّفُوسُ فِي ظِلِّهِ تُحْفَظُ، وَالأَعْرَاضُ وَالأَمْوَالُ تُصَانُ، وَالشَّرْعُ يَسُودُ، وَالاِسْتِقْرَارُ النَّفْسِيُّ وَالاِطْمِئْنَانُ الاِجْتِمَاعِيُّ يَتَحَقَّقُ بِإٍذْنِ اللهِ تَعَالَى.
وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْبِلاَدِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ - نَعِيشُ مَعَ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَمَعَ غَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحَدُّ، حَتَّى أَصْبَحَتْ بِلاَدُنَا مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي تَحْقِيقِهِ.
قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» [رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني].
وَمِمَّا يُذْكَرُ وَلاَ يُنْكَرُ: مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْنَا فِي بِلاَدِنَا مِنْ نِعْمَةِ الْمَالِ الْفَائِضِ، وَالْخَيْرِ الْوَفِيرِ، وَالْعَيْشِ الرَّغِيدِ، حَتَّى شَهِدَ بِذَلِكَ الْبَعِيدُ وَالْقَرِيبُ، وَالْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ، وَأَضْحَى تَأْثِيرُهَا عَلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ، وَهَذَا فَضْلٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِفَضْلِ تَمَسُّكِهَا وَاعْتِزَازِهَا بِدِينِهَا؛ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِذَا عُدْنَا إِلَى الْوَرَاءِ قَلِيلاً وَتَذَكَّرْنَا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلاَفُنَا فِي هَذِهِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ مِنْ جَهْلٍ وَفَقْرٍ وَذِلَّةٍ وَهَوَانٍ وَتَنَاحُرٍ وَتَدَابُرٍ وَتَفَرُّقٍ وَاخْتِلاَفٍ، حَتَّى مَنَّ اللهُ عَلَى أَهْلِهَا بِمَنْ وَحَّدَ عَلَى يَدَيْهِ كَلِمَتَهَا، وَجَمَعَ شَمْلَهَا، وَأَعَزَّ اللهُ بِهِ شَأْنَهَا؛ فَاجْتَمَعَتِ الْقُلُوبُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَاتَّحَدَتِ الْكَلِمَةُ بَعْدَ الاِخْتِلاَفِ، وَرَفْرَفَتْ رَايَةُ التَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَانْتَشَرَتْ دُرُوسُ الْعِلْمِ، وَأَخْرَجَ اللهُ كُنُوزَ الأَرْضِ، وَبَسَطَ أَمْنَهُ عَلَى أَرْجَائِهَا مُدُنًا وَقُرًى وَصَحَارِيَ وَقَفَارًا.
وَالْمَسْؤُولِيَّةُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى نِعْمَةِ الأَمْنِ، وَوَحْدَةِ الصَّفِّ، وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ؛ وَذَلِكَ بِالاِعْتِزَازِ بِهَذَا الدِّينِ، وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَذَلِكَ الاِنْتِمَاءُ الْمُخْلِصُ لِهَذَا الْوَطَنِ، وَالشُّعُورُ الْجَمَاعِيُّ بِمَسْؤُولِيَّةِ الْحِفَاظِ عَلَى الْوَطَنِ، وَالْمُمْتَلَكَاتِ، وَالْمُكْتَسَبَاتِ، وَالاِلْتِفَافُ حَوْلَ الْقِيَادَةِ الْحَكِيِمَةِ ، وَصَدُّ كُلِّ فِتْنَةٍ، أَوْ مَسْلَكٍ، أَوْ دَعْوَةٍ تُهَدِّدُ أَمْنَ هَذَا الْوَطَنِ، وَرَغَدَ عَيْشِهِ، وَالْوقُوفُ صَفًّا وَاحِدًا مَعَ وُلاَةِ أَمْرِنَا فِي وَجْهِ كُلِّ مُتَرَبِّصٍ وَحَاقِدٍ.
وَالْعَمَلُ عَلَى تَحْقِيقِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا..﴾ الآية [آل عمران: 103]. وَقَوْلِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا لِمَنْ وَلاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ. وَيَسْخَطُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ».
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الأَمْنَ وَالأَمَانَ فِي أَنْفُسِنَا وَفِي أَوْطَانِنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِالأَمْن وَالإِيمَانِ، وَغَمَرَنَا بِالْفَضْلِ وَالنِّعَمِ وَالإِحْسَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الْمُؤَيَّدُ بِالْمُعْجِزَةِ وَالْبُرْهَانِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهُ -تَعَالَى- وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَسْؤُولِيَّةَ عَلَيْنَا جَمِيعًا فِيمَا يَخُصُّ أَمْنَ وَسَلاَمَةَ الْوَطَنِ، وَالْحِفَاظَ عَلَى مُمْتَلَكَاتِهِ وَإِنْجَازَاتِهِ، وَلَيْسَ سِرًّا أَنَّنَا نَعِيشُ فِي ظَرْفٍ تَارِيخِيٍّ دَقِيقٍ، وَفِي مَنْطِقَةٍ تَحُفُّ بِهَا الْمَخَاطِرُ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ، فَهُنَاكَ مَنْ يَحْسُدُنَا عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَيَوَدُّ أَنْ يُزَعْزِعَ اسْتِقْرَارَنَا، وَيُفَرِّقَ جَمْعَنَا تَحْتَ ذَرَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ؛ مِنْهَا مَا هُوَ طَائِفِيٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إِرْهَابِيٌّ؛ بَلْ إِنَّ الْمُخَطَّطَاتِ قَدْ تَتَجَاوَزُ الْمَذْهَبِيَّةَ وَالإِرْهَابَ لِلسِّيَاسَةِ وَالاِقْتِصَادِ.
وَلَيْسَ سِرًّا أَيْضًا أَنَّنَا مِنَ الْبِلاَدِ الْقَلِيلَةِ الَّتِي لَمْ تَطَلْهَا أَيَادِي الْفِتَنِ وَالْقَلاَقِلِ، وَهُنَاكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ مِمَّنْ لاَ يُعْجِبُهُمْ ذَلِكَ.
وَلِذَا فَوَاجِبُنَا جَمِيعًا أَنْ نَلْتَفَّ حَوْلَ قِيَادَتِنَا لِنُسْهِمَ فِي الْحِفَاظِ عَلَى وَحْدَتِنَا، وَلْنُحَافِظْ عَلَى أُخُوَّتِنَا، وَنُحَقِّقْ قَوْلَ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»
[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-].
وَأَيْضًا نَعْمَلُ عَلَى غَرْسِ حُبِّ الْوَطَنِ فِي أَنْفُسِنَا وَفِي أَوْلاَدِنَا وَمُجْتَمَعَاتِنَا، وَالدِّفَاعِ عَنْهُ بِاللِّسَانِ وَالسِّنَانِ، وَأَنْ نَكُونَ يَدًا وَاحِدَةً مَعَ قِيَادَةِ بِلاَدِنَا الَّذِينَ لَهُمُ الْفَضْلُ -بَعْدَ اللهِ تَعَالَى- فِي جَمْعِ كَلِمَتِنَا، وَوَحْدَةِ صَفِّنَا، وَارْتِفَاعِ شَأْنِ بِلاَدِنَا وَازْدِهَارِهِ ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].