الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ الْكَرِيمِ الْوَدُودِ، الْمَلِكِ الْمَعْبُودِ، الْمَعْرُوفِ بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ وَالْجُودِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَسْدَاهُ مِنْ جَزِيلِ الْفَضْلِ وَالإِنْعَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَفْضَلُ الرُّسُلِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ سَعَادَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَفَلاَحٌ فِي الدَّارَيْنِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: خَصْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ خِصَالِ الدِّينِ الرَّفِيعَةِ الْعَلِيَّةِ، وَخَلَّةٌ مُبَارَكَةٌ كَرِيمَةٌ؛ جَاءَ التَّنْوِيهُ بِهَا وَالْحَثُّ عَلَيْهَا وَالتَّرْغِيبُ فِي فِعْلِهَا وَذِكْرُ عَظِيمُ ثَوَابِ أَهْلِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، وَفِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
إِنَّهُ خُلُقُ الْعَفْوِ وَالَّذِي هُوَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَبْوَابِ الإِحْسَانِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 13].
وَسَبَبٌ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 133]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22].
وَأَهْلُ الْعَفْوِ هُمُ الأَقْرَبُ لِتَحْقِيقِ تَقْوَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة:237].
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى سَجِيَّةَ وَخُلُقَ وَطَبْعَ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى: 37] فَلَيْسَ مِنْ طَبِيعَتِهِمُ الاِنْتِقَامُ مِنَ النَّاسِ، بَلِ الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ عَنْهُمْ.
وَالْعَفْوُ وَالصَّفْحُ مَقَامٌ عَظِيمٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ وَهُوَ صِفَةُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، وَصِفَةُ أَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ؛ وَقَدْ سُئِلَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: «لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا، وَلاَ مُتَفَحِّشًا، وَلاَ صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ»
[رواه الترمذي، وصححه الألباني].
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الْعَفْوَ سَبَبٌ لِلْعِزِّ وَالرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ».
وَقَدْ يَرَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْعَفْوَ ذُلٌّ وَمَهَانَةٌ وَإِهَانَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَمَامَ النَّاسِ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ فِي الاِنْتِقَامِ، وَهَذَا وَاللهِ مُجَانَبَةُ الْحَقِيقَةِ، فَالْعِزُّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَفْوِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ : «وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا» أَيْ أَنَّ الْعَفْوَ لاَ يَزِيدُ صَاحِبَهُ إِلاَّ عِزًّا وَرِفْعَةً وَسُمُوَّ قَدْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الحُورِ مَا شَاءَ» [أخرجه أبو داود، وحسنه الألباني].
فَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَوَابَ اللهِ وَأَجْرَهُ، وَمَا سَيَنَالُهُ عَلَى عَفْوِهِ؛ هَانَ عَلَيْهِ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَتَخَلَّقَ بِخُلُقِ الْعَفْوِ الْمُبَارَكِ؛ لِيَنَالَ رِضَا رَبِّهِ وَالْفَوْزَ بِجَنَّتِهِ، وَالنَّجَاةَ مِنْ عِقَابِهِ؛ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دُنْيَانَا وَدِينِنَا وَأَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا، وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا، وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلِنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ الْعَفُوِّ الْغَفُورِ، الرَّؤُوفِ الشَّكُورِ، الَّذِي وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِمَحَاسِنِ الأُمُورِ، وَمَا فِيهِ عَظِيمُ الأُجُورِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ دَاعِيًا إِلَى هُدَاهُ، فَبَشَّرَ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَنْذَرَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَعْلَى الْعَفْوِ الْمَمْدُوحِ هُوَ الْعَفْوُ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- أُوذُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَذًى كَثِيرًا، فَصَبَرُوا وَتَحَمَّلُوا أَذَى قَوْمِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي مَرْحَلَةِ الضَّعْفِ فَحَسْبُ، بَلْ فِي مَرْحَلَةِ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّمْكِينِ؛ وَذَلِكَ هُوَ كَمَالُ الْعَفْوِ: «الْعَفْوُ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ».
فَنَبِيُّ اللهِ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لَمَّا مُكِّنَ فِي مِصْرَ عَفَا عَنْ إِخْوَتِهِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُمْ: ﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ [يوسف: 92]؛ أَيْ: لاَ تَعْيِيرَ عَلَيْكُمْ وَلاَ إِفْسَادَ لِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ الْحُرْمَةِ وَحَقِّ الأُخُوَّةِ، وَلَكِنْ لَكُمْ عِنْدِي الصَّفْحُ وَالْعَفْوُ.
وَيَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- عَفَا عَنْ أَبْنَائِهِ الَّذِينَ كَادُوا لَهُ وَلاِبْنِهِ يُوسُفَ، وَذَلِكَ حِينَمَا اعْتَرَفُوا بِخَطَئِهِمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَلَبَّى طَلَبَهُمْ، فَقَالَ: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يوسف: 98].
وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُ الْمُرْسَلِينَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي كَانَ الَعَفْوُ وَالصَّفْحُ مِنْ أَجَلِّ صِفَاتِهِ؛ بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَغَ الْقِمَّةَ، وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ الرَّفِيعَةَ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي كُلِّ خُلُقٍ مِنَ الأَخْلاَقِ الْكَرِيمَةِ، فَكَانَ عَفْوُهُ يَشْمَلُ الأَعْدَاءَ فَضْلاً عَنِ الأَصْدِقَاءِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-، وَتَحَلَّوْا بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْكَرِيمَةِ، وَسَلُوا رَبَّكُمُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ؛ فَالإِنْسَانُ لاَ يَخْلُو مِنْ تَقْصِيرٍ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَوُقُوعٍ بِبَعْضِ الزَّلاَّتِ، ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].