الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْأَخْلَاقَ مِنَ الدِّينِ، وَأَعْلَى بِهَا شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَثْقَلَ بِهَا الْمَوَازِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَاحِبُ الْخُلُقِ الْقَوِيمِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي يَمُنُّ اللهُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ نِعْمَةِ الإِسْلاَمِ: نِعْمَةُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ؛ وَكَمَا قَالَ الْفَارُوقُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ بَعْدَ الإِسْلاَمِ نِعْمَةٌ، خَيْرًا مِنْ أَخٍ صَالِحٍ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ وُدًّا مِنْ أَخِيهِ فَلْيَتَمَسَّكْ بِهِ» وَلِذَلِكَ فَقَدْ أَوْصَانَا اللهُ تَعَالَى بِصُحْبَةِ الأَخْيَارِ وَمُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [سورة الكهف: 28]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة الزخرف: 67]، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حَرِيصًا عَلَى تَعْلِيمِ أُمَّتِهِ مَا يَنْفَعُهَا فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَمَا يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ عَلاَقَاتِهِمُ الطَّيِّبَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِيَارُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، فَقَالَ: «لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ»
[رواه أبو داود، وحسنه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري]
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» [أخرجه أبو داود وغيره، وصححه ابن باز].
وَقَدْ ضَرَبَ لَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ، وَأَدَقَّ التَّشْبِيهِ لِلْجَلِيسِ الصَّالِحِ بِحَامِلِ الْمِسْكِ الَّذِي تَنْتَفِعُ بِمَا مَعَهُ؛ إِمَّا بِهِبَةٍ، أَوْ بِبَيْعٍ، أَوْ بِأَقَلِّ شَيْءٍ مُدَّةَ الْجُلُوسِ مَعَهُ، وَأَنْتَ قَرِيرُ النَّفْسِ، مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ بِرَائِحَةِ الْمِسْكِ، وَهَذَا تَقْرِيبٌ وَتَشْبِيهٌ لَهُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ فَمَا يَحْصُلُ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْعَبْدُ مِنْ جَلِيسِهِ الصَّالِحِ أَبْلَغُ وَأَفْضَلُ مِنَ الْمِسْكِ الأَذْفَرِ؛ فَإِنَّهُ يَسُدُّ خَلَّتَكَ، وَيَقْضِي حَاجَتَكَ، وَيَغْفِرُ زَلَّتَكَ، وَيُقِيلُ عَثْرَتَكَ، وَيَسْتُرُ عَوْرَتَكَ، وَإِذَا اتَّجَهْتَ إِلَى الْخَيْرِ حَثَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَكَ عَوْنًا عَلَيْهِ، وَإِذَا عَمِلْتَ سُوءًا أَوْ تَوَجَّهْتَ إِلَى سُوءٍ حَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيدُ؛ يَأْمُرُكَ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَاكَ عَنِ الشَّرِّ، وَيُسْمِعُكَ الْعِلْمَ النَّافِعَ، وَالْقَوْلَ الصَّادِقَ، وَالْحِكْمَةَ الْبَلِيغَةَ، وَيَنْصَحُ لَكَ، وَيُعَرِّفُكَ عُيُوبَ نَفْسِكَ، وَيَشْغَلُكَ عَمَّا لاَ يَعْنِيكَ، وَإِذَا أَهْمَلْتَ بَشَّرَكَ وَأَنْذَرَكَ، يَعْتَنِي بِكَ حَاضِرًا وَغَائِبًا.
يُزَيِّنُ لَكَ الطَّاعَةَ، وَيُقَبِّحُ لَكَ الْمَعْصِيَةَ، وَيَأْمُرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاكَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلاَ يَزَالُ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَغُشُّكَ؛ فَهُوَ بَائِعُ الْمِسْكِ الَّذِي لاَ يَبِيعُ عَلَيْكَ إِلاَّ طَيِّبًا، وَلاَ يُعْطِيكَ إِلاَّ جَيِّدًا، وَأَنْتَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَبَيْتَ الشِّرَاءَ! فَسَوْفَ تَجِدُ مِنْهُ الرِّيحَ الطَّيِّبَ.
أَوْصَى بَعْضُ الصَّالِحِينَ وَلَدَهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِذَا أَرَدْتَ صُحْبَةَ إِنْسَانٍ فَاصْحَبْ مَنْ إِذَا خَدَمْتَهُ صَانَكَ، وَإِنْ صَحِبْتَهُ زَانَكَ، وَاصْحَبْ مَنْ إِذَا مَدَدْتَ يَدَكَ لِلْخَيْرِ مَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْكَ سَيِّئَةً سَدَّهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: لَوْلاَ ثَلاَثٌ مَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ سَاعَةً: ظَمَأُ الْهَوَاجِرِ - الصِّيَامُ فِي النَّهَارِ الْحَارِّ-، وَالسُّجُودُ فِي اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ جَيِّدَ الْكَلاَمِ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: لَوْلاَ الْقِيَامُ بِالأَسْحَارِ، وَصُحْبَةُ الأَخْيَارِ؛ مَا اخْتَرْتُ الْبَقَاءَ فِي هَذِهِ الدَّارِ.
وَكَانُوا إِذَا فَقَدُوا أَخًا عَزِيزًا، وَمُجَالِسًا صَالِحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِيهِمْ!
قَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: إِذَا بَلَغَنِي مَوْتُ أَخٍ لِي فَكَأَنَّمَا سَقَطَ عُضْوٌ مِنِّي.
قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:
أَخِلاَّءُ الرَّخَاءِ هُمُ كَثِيرٌ وَلَكِنْ فِي الْبَلاَءِ هُمُ قَلِيلُ
فَلاَ يَغْرُرْكَ خُلَّةُ مَنْ تُؤَاخِي فَمَا لَكَ عِنْدَ نائِبَةٍ خَلِيلُ
وَكُلُّ أَخٍ يَقولُ أَنا وَفِيٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ يَفْعَلُ مَا يَقُولُ
سِوَى خِلٍّ لَهُ حَسَبٌ وَدِينٌ فَذَاكَ لِمَا يَقُولُ هُوَ الفَعُولُ
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا صُحْبَةَ الأَخْيَارِ، وَخِصَالَ الأَطْهَارِ، وَأَوْرِدْنَا طَرِيقَ الأَبْرَارِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ لَنَا خَيْرَ دَارٍ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ ثِمَارِ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ: التَّعَاوُنَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، كَمَا أَمَرَ عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى الْقَائِلِ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
أَعْنِي: تَحْقِيقُ الْقِيَمِ الدِّينِيَّةِ مِنْ خِلاَلِ هَذَا التَّعَاوُنِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَفِي الأَخْلاَقِ، وَالْمُعَامَلاَتِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «.. وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
وَمِنْ ثِمَارِ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ: الْحُصُولُ عَلَى بَرَكَةِ الْمُجَالَسَةِ الصَّالِحَةِ؛ لِمَا رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «.. هُمُ القَوْمُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُمْ».
وَمِنْ ثِمَارِ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ: الأُنْسُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67].
وَمِنْ ثِمَارِ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ: أَنَّهُمْ زِينَةٌ فِي الرَّخَاءِ وَعُدَّةٌ فِي الْبَلاَءِ؛ فَهُمْ خَيْرُ مُعِينٍ بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى عَلَى تَخْفِيفِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ، وَكَمْ فِي حَيَاتِنَا هَذِهِ مِنْ غُمُومٍ وَهُمُومٍ، وَكَمْ فِيهَا مِنْ شَدَائِدَ يَحْتَاجُ الْوَاحِدُ مِنَّا إِلَى شَخْصٍ يُسْمِعُهُ، وَيَسْتَأْنِسُ بِرَأْيِهِ وَنُصْحِهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاحْرِصُوا عَلَى انْتِقَاءِ الْجُلَسَاءِ الصَّالِحِينَ مِنْ مَظَانِّ وُجُودِهِمْ كَالْمَسَاجِدِ، وَرِيَاضِ الْعِلْمِ وَمَجَالِسِ الْخَيْرِ وَغَيْرِهَا؛ وَلْيَكُنِ اخْتِيَارُنَا لِمَنْ هُوَ أَتْقَى لِرَبِّهِ، وَأَزْكَى عِلْمًا وَأَشَدُّ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَأَحْسَنُ خُلُقًا، وَأَكْثَرُ حِرْصًا عَلَى خِدْمَةِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عَلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].