الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ هَانِئِ بْنِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يُكنُّونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ؟» فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «مَا أَحْسَنَ هَذَا! فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟» قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: «فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟» قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: «فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» [صححه الألباني].
فَالْحَكِيمُ وَالْحَكَمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 18] ، وَقَالَ تَعَالَى : ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ﴾ [الأنعام: 114]
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «﴿وَٱلْحَكِيمُ﴾ يَتَضَمَّنُ حُكْمَهُ وَعِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ فِيمَا ‏يَقُولُهُ وَمَا يَفْعَلُهُ؛ فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ كَانَ حَسَنًا، وَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كَانَ صِدْقًا، وَإِذَا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ كَانَ صَوَابًا، فَهُوَ حَكِيمٌ فيِ إِرَادَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ».
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الحَكِيمُ مِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى، وَالحِكْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ العُلَى، وَالشَّرِيعَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ أَمْرِهِ مَبْنَاهَا عَلَى الحِكْمَةِ، وَالرَّسُولُ المَبْعُوثُ بِهَا مَبْعُوثٌ بِالكِتَابِ وَالحِكْمَةِ؛ وَالحِكْمَةُ هِيَ سُنَّةُ الرَّسُولِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ العِلْمَ بِالحَقِّ وَالعَمَلَ بِهِ وَالخَبَرَ عَنْهُ وَالأَمْرَ بِهِ، فَكُلُّ هَذَا يُسَمَّى حِكْمَةً» انتهى. [طريق الهجرتين: 161].
فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الأُمُورَ فِي مَوَاضِيعِهَا؛ فَهُوَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا عَبَثًا، وَلَمْ يَشْرَعْ شَرْعًا سَفَهًا، فَكُلُّ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ فَلِحِكْمَةٍ، وَكُلُّ مَا شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَلِحِكْمَةٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً﴾ [الأنعام: 114].
فَمِنْ حِكْمَتِهِ: خَلْقُهُ لِلْخَلْقِ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الخَلْقَ لِحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَغَايَةٍ جَلِيلَةٍ، وَهِيَ عِبَادَتُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ حَيْثُ قَالَ: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]، وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ عَبَثًا وَبَاطِلًا كَمَا يَظُنُّ الكُفَّارُ وَالمَلَاحِدَةُ .
وَهُوَ الحَكَمُ سُبْحَانَهُ الذِي يَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ كَمَا أَرَادَ، إِمَّا إِلْزَامًا لَا يُرَدُّ ،كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [الرعد: 41]، وَإِمَّا تَكْلِيفًا عَلَى وَجْهِ الابْتِلاَءِ لِلعِبَادِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1]
فَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقْضِي فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ مِنْ تَحْلِيلِ مَا أَرَادَ تَحْلِيلَهُ، وَتَحْرِيمِ مَا أَرَادَ تَحْرِيمَهُ، وَإِيجَابِ مَا شَاءَ إِيجَابَهُ عَلَيْهِم، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ. وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [الرعد: 41]، فَحُكْمُهُ فِي الخَلْقِ نَافِذٌ، لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يُبْطِلَهُ أَوْ يَخْتَارَ غَيْرَهُ أَوْ يُبَدِّلَهُ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْفِقْهَ فِي دِينِكَ، وَالْعَمَلَ بِكِتَابِكَ، وَاتِّبَاعَ سُنَّةَ نَبِيِّكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا...
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلإِيمَانِ بِأَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى -وَالَّتِي مِنْهَا اسْمُ الْحَكِيمِ وَالْحَكَمُ - ثَمَرَاتٍ، مَنْ أَهَمِّهَا: أَنَّ الْحُكْمَ للهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي حُكْمِهِ، كَمَا لاَ شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26]، وَقَالَ: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾ [الأنعام: 57].
وَقَالَ: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10].
وَمِنْ ثَمَرَاتِ الإِيمَانِ بِاسْمِ اللهِ الْحَكِيمِ: إِثْبَاتُ صِفَةِ الْعَدْلِ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَاللهُ عَدْلٌ فِي حُكْمِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَلاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا يُحَمِّلُ أَحَدًا وِزْرَ أَحَدٍ ، وَلَا يُجازِيِ الْعَبْدَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَلَا يَدَعُ صَاحِبَ حَقٍّ إلاَّ أَخَذَهُ ؛ فَهُوَ الْعَدْلُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ ، وَأَقْوَالِه وَأَفْعَالِه، وَشُؤُونِهِ كُلِّهَا ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام:115]
وَمِنَ الثَّمَرَاتِ: الاِنْقِيَادُ وَالْقَبُولُ لِجَمِيعِ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى، وَالاِسْتِسْلاَمُ لِشَرْعِ اللهِ، وَتَحْكِيمُ كِتَابِهِ، وَاتِّبَاعُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:65].
فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَأَخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لِخَالِقِكُمْ، وَالْجَأُوا لَهُ وَتَضَرَّعُوا لِلْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ، الَّذِي لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا عَبَثًا، وَلاَ يُشَرِّعُ شَيْئًا سُدًى، الَّذِي لَهُ الْحُكْمُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام : 18].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].