خطبة جمعة

بعنوان
(المُلْكُ وَالإِسْتِخْلَافُ)

عبدالله فهد الواكد
جامع الواكد بحائل



الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ الذِي رَفَعَ الحَرَجَ وَأَدْنَى الفَرَجَ أَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً ،
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : فَاتَّقُوا اللهَ القَائِلَ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
أَيُّها المُسْلِمُونَ : قال الله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) [البقرة:30] الكَوْنُ كُلُّهُ مُلْكٌ للهِ تَعَالَى ، وَنَحْنُ بَنُوا آدَمَ مُسْتَخْلَفُونَ فِي هَذِهِ الأرْضِ ، وَلَمْ تَكُنْ خِلَافَتَنَا مُطْلَقَةٌ ، إِنَّمَا قَيَّدَهَا اللهُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَشَرْعِهِ ، الذِي يَضْمَنُ دَوَامَ الأَمْنِ وَالعَيْشِ فِيهاَ ، قَالَ تَعَالَى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (25 الأنفال) لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَخَذَ النَّاسَ عَمَّهُمْ بِالعُقُوبَةِ فَفِي البُخَارِيِّ عَنْ زَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ : ( لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ وَبِالَّتِي تَلِيهَا ، قَالَتْ زَيْنَبُ : فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ ) ! يَعْنِي إِذَا كَثُرَتْ المَعَاصِي عَمَّ الهَلَاكُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ
فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَمَا خَلَقَ هَذَا الكَوْنَ العَظِيمَ جَعَلَهُ تَحْتَ طَوْعِهِ وَسُلْطَانِهِ ، خَلَقَهُ بِنِظَامٍ رَتِيبٍ وَتَدْبِيرٍ عَجِيبٍ يَعْجَزُ العَاقِلُ المُتَدَبِّرُ عَنْ وَصْفِهِ ، وَأَمَّا هَذِهِ الأَرْضُ التِي يَسْكُنُهاَ بَنُو آدَمَ ، وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِيهَا ، فَقَدْ مَلَأَهَا اللهُ بِالنِّعَمِ التِي يَجِبُ عَلَيْنَا شُكْرَهَا فَالخَالِقُ لاَ يُضَيِّعُ مَنْ خَلَقَ ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(14 الملك )، وَلَكِنَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ قَالَ تَعَالَى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (56 الذاريات) فمَنْ أَسْلَمَ وَآمَنَ وَأَطَاعَ اللهَ دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ أَدْبَرَ وَكَفَرَ وَعَصَى دَخَلَ النَّارَ ، وَجَعَلَ الآخِرَةَ مَوْعِدًا لِمُحَاسَبَةِ النَّاسِ ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا لَهُمْ مُحَاسَبَةٌ فِي دُنْيَاهُمْ ، إِذَا تَجَاوَزُوا الحُدُودَ التِي حَدَّهَا اللهُ لَهُمْ وَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ وَهَذِهِ الحُدُودُ هِيَ التِي عَلَيْهَا تَقُومُ حَيَاةُ البَشَرِ جَمِيعًا وَتَصْلُحُ بِهَا الحَيَاةُ وَيَهْنَأُ بِهَا العَيْشُ ، فإذا أصبح المنْكَرُ فَاحِشاً وَمُشَاعًا وَمُعْلَنًا كَالزِّنَا وَالفَوَاحِشِ وَغَيْرِهَا ، أَلْبَسَ اللهُ النَّاسَ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ وَأَذَاقَهُمْ العِقَابَ الذِي سَنَّهُ فِي هَذَا الكَوْنِ ، وَبَيَّنَهُ لَهُمْ فِي القُرْآنِ ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َ: ( ... لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا .... ) [رواه ابن ماجة والحاكم وصححه الألباني
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : عُقُوبَةُ اللهِ مِنْ جِنْسِ مُخَالَفَةِ النَّاسِ فَقَدْ كَانَ آلُ فِرْعَوْنَ عَلَى ضِفَافِ النِّيلِ يَزْرَعُونَ وَيَأْكُلُونَ ( وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)(51الزخرف ) فَأَخَذَهُمْ اللهُ بِالقَحْطِ وَالسِّنِينَ ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ ( الأعراف 130) وَأَخَذَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَصْنَافِ العَذَابِ قَالَ تَعَالَى ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾(الأعراف 133) وَأَخَذَ قَوْمَ سَبَأٍ بِالتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ بَعْدَمَا كَانَتْ طُرُقُ سَيْرِهِمْ مِنْ اليَمَنِ إِلَى الشَّامِ مِنْ خِلَالِ قُرًى ظَاهِرَةٍ عَامِرَةٍ لاَ يَحْتَاجُونَ فِيهَا لِلْمُؤَنِ وَالتَّزَوُّدِ , لَكِنَّهُمْ دَعَوُا اللهَ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمْ أَمْنَ الطَّرِيقِ وَأَنْ يَجْعَلَ أَسْفَارَهُمْ مُتَبَاعِدَةً مُوحِشَةً , قَالَ تَعَالَى : (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19 سبأ )
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : واللهُ عَزَّ وَجَلَّ حين أَمَرَ النَّاسَ عَلَى هَذِهِ الأَرْضِ بِالِحشْمَةِ وَالعَفَافِ وَعَدَمِ الإخْتِلَاطِ فَأَمْعَنَ النَّاسُ فِي مُخَالَفَةِ ذَلِكَ فِي كثِيرٍ مِنْ البُلْدَانِ وَكَثُرَتْ الخُلْطَةُ وَاللَّهْوُ المُحَرَّمُ فِي غالب أَصْقَاعِ الدُّنْيَا فَابْتَلَاهُمْ اللهُ جَمِيعًا بِهَذَا الفَيْرُوسِ الذِي أَوْقَفَ العَالَمَ وَجَمَّدَ الإِقْتِصَادَ وَحَبَسَ النَّاسَ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَلْبَسَهُمْ الكَمَّامَاتِ وَحَتَمَ عَلَيْهِمُ التَّبَاعُدَ حَتَّى فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ كَمَا تَرَوْنَ وَهُوَ فَيْرُوسٌ مُتَنَاهِي الصِّغَرِ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ) (31 المدثر ) فَاللهُ يُمْهِلُ وَيَأْخُذُ النَّاسَ بِالعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، فَهَذَا مُلْكُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مُلْكُهُ وَمَحَارِمُهُ وَحُدُودُهُ ، وَأَمَّا نَحْنُ فخَلَقٌ مُسْتَخْلَفُونَ ، ضُعَفَاءُ مَغْلُوبُونَ ، غَايةُ مُا لَدَيْنَا مِنْ عِلْمٍ وَتَطَوُّرٍ وَقُوَّةٍ تَقِفُ حَائِرَةً أَمَامَ فَيْرُوسٍ ضَعِيفٍ ، فَمَا أَوْسَعَ رَحْمَةِ اللهِ بنا ، وَمَا أَطْوَلَ حُلُمَهُ عَلَيْنَا ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (65 الحج )
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْءَانِ العَظِيمِ

الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ ربِّ العالمينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيه وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ . أمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ فَاتَّقُوا اللهَ القَائِلَ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : مِنْ سُنَنِ اللهِ الكَوْنِيَّةِ التِي سَنَّهَا فِي هَذَا الكَوْنِ لِيَسِيرَ النَّاسُ عَلَيْهَا مَعَ تَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ ، الأَخْذُ بِالأَسْبَابِ ، فَمَنْ سَلَكَ أَسْبَابَ الهَلاَكِ هَلَكَ وَمَنْ سَلَكَ أَسْبَابَ النَّجَاةِ نَجَا بِإِذْنِ اللهِ
تَبْغي النَّجَاة وَلَمْ تَسْلُكْ طَرِيقَتَهَا
إنَّ السَّفِينَة لاَ تَجْرِي عَلَى اليَبَسِ
فَعَلَيْنَا أَنْ نَعُودَ إِلَى رَبِّنَا بِالإِسْتِغْفَارِ وَالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ أَنْ يحفظنا ويحفظ بلادنا وأن يَرْفَعَ عَنَّا هَذَا الوَبَاءَ وَوَاجِبُ المُسْلِمُ الإِعْتِبَارُ وَالنُّصْحُ لِأُمَّتِهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ
ثُمَّ عَلَيْنَا اتِّبَاعُ التَّعْلِيمَاتِ الصِّحِّيَّةِ التِي تَصْدُرُ مِنْ الجِهَاتِ الرَّسْمِيَّةِ ، الِتي تَأْمُرُنَا بِالتَّبَاعُدِ الإِجْتِمَاعِيِّ وَلِبْسِ الكَمَّامَاتِ قَالَ تَعَالَى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195 البقرة )
عِبَادَ اللهِ ، صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الهَادِي البَشِيرِ وَالسِّرَاجِ المُنِيرِ ، كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ ( إِنَّ اللهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيْ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُواْ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) اللهم صلِّ وسلمْ وأنعمْ وأكرمْ وزدْ وباركْ ، على عبدِك ورسولِكَ محمدٍ ،