الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ للهِ الْقَائِلِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ: ﴿وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَـٰتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم:21]. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ؛ حَكَمَ فَقَدَّرَ، وَشَرَعَ فَيَسَّرَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ».
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ؛ أَيْ: يَتَمَتَّعُ وَيَنْتَفِعُ بِهَا الإِنْسَانُ، حَتَّى يَنْتَقِلَ مِنْهَا إِلَى الدَّارِ الآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَمِنْ مَتَاعِهَا: الزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَسْعَى فِي صَلاَحِ نَفْسِهَا، وَصَلاَحِ زَوْجِهَا، وَتَكُونُ سَبَبًا فِي نَجَاحِهِ وَفَلاَحِهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبي نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» [رواهُ أَبُو داود، وصححه الألباني من حديث أبي هريرة ]
وَهِيَ التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ صَاحِبَةُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ، وَالأَدَبِ الرَّفِيعِ الَّتِي لاَ يُعْرَفُ مِنْهَا بَذَاءَةُ لِسَانٍ وَلاَ خُبْثُ جَنَانٍ، وَلاَ سُوءُ عِشْرَةٍ، بَلْ تَتَحَلَّى بِالطِّيبِ وَالْعِفَّةِ وَالصَّفَاءِ، بَعِيدَةٌ عَنِ الْجِدَالِ وَالْكِبْرِ وَالْمِرَاءِ.
وَهِيَ الَّتِي إِذَا أُعْطِيَتْ شَكَرَتْ، وَإِذَا حُرِمَتْ صَبَرَتْ؛ تَسُرُّكَ إِذَا نَظَرْتَ، وَتُطِيعُكَ إِذَا أَمَرْتَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلاَ تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَلاَ فِي مَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ» [رواه أحمد، وحسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»].
وَهِيَ الَّتِي تَحْفَظُ نَفْسَهَا وَعِرْضَهَا فِي حُضُورِ زَوْجِهَا وَمَغِيبِهِ، وَفِي صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ﴾ [النساء: 34].
وَهِيَ الَّتِي تَرَى فِيهَا مُرَبِّيَةً صَادِقَةً لأَبْنَائِكَ، تُعَلِّمُهُمُ الإِسْلاَمَ وَالتَّوْحِيدَ، وَالسُّنَّةَ وَالْخُلُقَ وَالْقُرْآنَ، وَتَغْرِسُ فِيهِمْ حُبَّ اللهِ وَحُبَّ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَحُبَّ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ؛ وَلاَ يَكُونُ هَمُّهَا مِنْ دُنْيَاهُمْ فَقَطْ أَنْ يَبْلُغُوا مَرَاتِبَ الْجَاهِ وَالْمَالِ وَالشَّهَادَاتِ، بَلْ مَرَاتِبَ التَّقْوَى وَالدِّيَانَةِ وَالْخُلُقِ وَالْعِلْمِ وَجَنْيِ الْحَسَنَاتِ.
قِيلَ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَيُّ النِّسَاءِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَتْ: الَّتِي لاَ تَعْرِفُ عَيْبَ الْمَقَالِ، وَلاَ تَهْتَدِي لِمَكْرِ الرِّجَالِ، فَارِغَةُ الْقَلْبِ إِلاَّ مِنَ الزِّينَةِ لِبَعْلِهَا، وَالإِبْقَاءِ فِي الصِّيَانَةِ عَلَى أَهْلِهَا.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْجَمِيلَةُ، وَالْمَعَانِي النَّبِيلَةُ؛ مَطْلَبُ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ [الأنبياء: 89- 90].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ صَلاَحَ الْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ، وَالأَهْلِ وَالذُّرِّيَّةِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ خُلُقَ الْمُسْلِمِ مُعَاشَرَةُ الزَّوْجَةِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي» [رواه الترمذي، وصححه الألباني] فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نَتَأَسَّى بِأَخْلاَقِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِي حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ! وَالَّذِي كَانَ يَتَمَثَّلُ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ مَعَ زَوْجَاتِهِ؛ فَكَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ زَوْجَاتِهِ حَسَنَ الْعِشْرَةِ، يُسْمِعُهُنَّ أَجْمَلَ الْكَلِمَاتِ، وَيُعَاشِرُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، رَفِيقًا بِهِمْ فِي حَلِّهِ وَتَرْحَالِهِ وَفِي كُلِّ شُؤُونِ حَيَاتِهِمْ، يُكْرِمُهُنَّ وَيُمَازِحُهُنَّ، وَيَرْفُقُ بِهِنَّ، وَيُعَلِّمُهُنَّ وَيَدْعُو لَهُنَّ، وَهَذَا الأَمْرُ قَدْ غَفَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الأَزْوَاجِ فِي زَمَنِنَا هَذَا إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ؛ فَتَجِدُ الْمَرْأَةَ تَقُومُ بِمَهَامٍ عَدِيدَةٍ؛ مِنْ مُتَابَعَةٍ لِلأَوْلاَدِ فِي دِينِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَمَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَرَوَاحِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ، وَالزَّوْجُ لاَ يَرْفَعُ رَأْسًا وَلاَ يُحَرِّكُ شَفَةً بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ حَسَنَةٍ، أَوْ دُعَاءٍ صَادِقٍ لِهَذِهِ الْمِسْكِينَةِ الَّتِي تُوَاجِهُ مُعْتَرَكَ الْحَيَاةِ بِمُفْرَدِهَا؛ فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَتَمَثَّلُوا هَذِهِ الأَخْلاَقَ الرَّفِيعَةَ مِنْ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مَعَ أَهْلِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
هَذَا؛ وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].