الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بُيُوتُ الأَتْقِيَاءِ، وَمَوْطِنُ الأَنْقِيَاءِ، وَمُسْتَرَاحُ الصَّالِحِينَ، وَمَوْضِعُ طُمَأْنِينَةِ الْمُخْلَصِينَ؛ كَمْ تَخَرَّجَ مِنْهَا مِنْ عُبَّادٍ وُعَلَمَاءَ، وَمُجَاهِدِينَ أَوْفِيَاءَ، وَمِنْهَا يَنْطَلِقُ أَعْظَمُ نِدَاءٍ؛ نِدَاءِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالدَّعْوَةِ لِلصَّلاَةِ وَالْفَلاَحِ ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور: 36 – 38]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18].
بُيُوتُ اللهِ هِيَ: أَحَبُّ الأَمَاكِنِ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، وقَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا» [رواه مسلم]. وَهَذِهِ الْبُيُوتُ قَدْ رَتَّبَ اللهُ تَعَالَى الْفَضْلَ الْعَظِيمَ وَالأَجْرَ الْعَمِيمَ لِمَنْ دَاوَمَ الذَّهَابَ إِلَيْهَا، وَجَعَلَهَا مَوْطِنًا لَهُ يَأْلَفُهَا وَيُحِبُّهَا وَيَعْتَادُ الْجُلُوسَ فِيهَا لِلصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ إِخْلاَصًا للهِ تَعَالَى، وَمُتَابَعَةً لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ– الْقَائِلِ: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَيْتَهُ بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ، إِلَى الْجنَّةِ»
[رواه الطبراني، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب]
وَقَدْ وَعَدَ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ– أَنَّ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ صَبَاحًا أَوْ مَسَاءً لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ بِالضِّيَافَةِ الَّتِي لاَ تَخْطُرُ لَهُ عَلَى بَالٍ فِي الْجَنَّةِ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» [متفقٌ عَلَيهِ]. وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «مَن تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مَن بُيُوتِ اللهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِن فَرَائِضِ اللهِ، كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً» [رواه مسلم].
وَالْبِشَارَةُ تَأْتِي مِنَ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لِمَنْ مَشَى إِلَى بُيُوتِ اللهِ فِي الظُّلَمِ؛ سَوَاءً فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ، أَوْ فِي آخِرِهِ لِصَلاَةِ الْفَجْرِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مُقِيمِي الصَّلاَةِ، وَمُنَّ عَلَيْنَا بِالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى يَا جَزِيلَ الْهِبَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَفْرَحُ فَرَحًا يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ بِقُدُومِ عَبْدِهِ إِلَى مَسْجِدِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ إِلاَّ تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ» [رواه ابن ماجه، وصححه الألباني].
والبَشْبَشةُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى صِفةٌ فِعليَّةٌ ثَابِتَةٌ لِلّهِ عَزَّ وجلَّ، وَهُوَ وَصْفُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ، والتَّبَشْبُشُ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ يَشْمَلُ فِي مَعْنَاهُ : إِظْهَارَ الْأَفْعَالِ الْـمُرْضِيَةِ لِلْعَبْدِ، وَتَلَقِّيَهِ ببِرِّهِ وَتَقْرِيِبَهُ وِإِكْرامَهُ، ويُوَفِّقُهُ لِلطَّاعَةِ، وَيَغمُرُهُ بِالرَّأْفةِ وَالرَّحْمَةِ،
فَاتَّقُوا اللهَ – عِبَادَ اللهِ – وَبَادِرُوا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلاَةِ فِي بُيُوتِ اللهِ تَعَالَى، لِتَفُوزُوا بِالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالأُجُورِ الْعَظِيمَةِ فيِ الآخِرَةِ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].