الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مُنْذُ بَزَغَ نَجْمُ الإِسْلاَمِ وَأَعْدَاؤُهُ يُحَاوِلُونَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ، بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ قُوَّةٍ: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32].
وَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « يُوشِكُ الأمم أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ, كَمَا تَدَاعَى اَلْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا » فَقَالَ قَائِلٌ: مِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ، قَالَ: « بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ اَلسَّيْلِ ، وَلَيَنْزِعَنَّ اَللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ اَلْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وَلَيَقْذِفَنَّ اَللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ اَلْوَهْنَ » فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، وَمَا اَلْوَهْنُ؟ قَالَ:
« حُبُّ اَلدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ اَلْمَوْتِ»
[ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ مِنْ حَدِيِثِ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-] فَمُخَطَّطَاتُ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ مِنْ أَشَدِّهَا فَتْكًا، وَمِنْ أَخْطَرِهَا وَأَشَدِّهَا ضَرَرًا وَخَطَرًا الْمُخَدِّرَاتُ؛ بِأَنْوَاعِهَا وَأَشْكَالِهَا وَأَصْنَافِهَا، الَّتِي تُوَجَّهُ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ، وَلِبِلاَدِنَا خَاصَّةً ؛ تُوَجَّهُ حَرْبًا فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ! لِتَجْعَلَ الْعَاقِلَ لاَ عَقْلَ لَهُ، وَالْمُفَكِّرَ لاَ فِكْرَ لَهُ، وَالْغَيُورَ عَلَى دِينِهِ وَخُلُقِهِ وَبَلَدِهِ لاَ غَيْرَةَ لَهُ؛ حَتَّى تَسْلُبَ مِنَ الْمُسْلِمِ كَرَامَتَهُ وَرُجُولَتَهُ، وَشَرَفَهُ وَعِفَّتَهُ، وَقَبْلَ ذَلِكَ دِينَهُ.
وَالنَّاظِرُ بِعَيْنِ الْبَصَرِ وَالْبَصِيرَةِ لِمَنْ سَرَتْ فِي دِمَائِهِمْ هَذِهِ الْمُخَدِّرَاتُ، وَأَصْبَحَتْ جُزْءًا مِنْهَا: يَجِدُ أَنَّهَا حَوَّلَتْهُمْ إِلَى جُثَثٍ هَامِدَةٍ، وَأَعْبَاءَ ثَقِيلَةً، بَلْ وَإِلَى مُجْرِمِينَ يُهَدِّدُونَ أَمْنَ الْمُجْتَمَعِ وَالأُمَّةِ؛ تَرَى أَحَدَهُمْ هَزِيلَ الْجِسْمِ ثَائِرَ الشَّعْرِ غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، مُرْتَعِشَ الْيَدَيْنِ وَسِخَ الثِّيَابِ؛ وَظِيفَتُهُ قَدْ فَارَقَهَا، وَزَوْجَتُهُ طَلَّقَهَا!
الأَبْنَاءُ شَرَّدَهُمْ، وَالْوَالِدَانِ عَذَّبَهُمْ، وَالْجِيرَانُ أَزْعَجَهُمْ، وَالأَطِبَّاءُ أَتْعَبَهُمْ، بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُخَدِّرَاتِ اللَّعِينَةِ. وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَذِيلَةُ الْمُخَدِّرَاتِ وَكُلُّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَأَسْكَرَهُ فَهُوَ خَمْرٌ، جَاءَ تَحْرِيمُهُ فِي شَرِيعَتِنَا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة:90].
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ »
[صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي صَحِيحِ أَبِي دَاوُدَ].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدَغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا رَدَغَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ: «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ»
[صَحَّحَه الْأَلْبَانِيُّ فِي صَحِيحِ ابْنِ مَاجَهْ].
فَرَذِيلَةُ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْمُسْكِرَاتِ آفَةٌ خَبِيثَةٌ، لَمْ تَفْشُ فِي عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ كَمَا فَشَتْ فِي عَصْرِنَا الْحَاضِرِ؛ فَهَا هِيَ وَسَائِلُ الإِعْلاَمِ تُطَالِعُنَا صَبَاحَ مَسَاءَ مُظْهِرَةً جُهُودَ رِجَالِ الأَمْنِ، عَارِضَةً كَمِّيَّاتٍ مُخِيفَةً وَعِصَابَاتٍ قَذِرَةً مِنْ جِنْسِيَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ! الأَمْرُ الَّذِي يَجْعَلُنَا فِي قَلَقٍ وَخَوْفٍ مِنْ تِلْكَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ! لأَنَّ ضَحَايَاهَا مَعَ الأَسَفِ الشَّدِيدِ شَبَابٌ فِي سِنِّ الزُّهُورِ.
فَهِيَ شَرٌّ بِأَنْوَاعِهَا، قَدِ اصْطَلَى بِنَارِهَا مَنْ عَاشَهَا؛ فَوَالِدٌ يَشْكِي، وَأُمٌّ تَبْكِي، وَزَوْجَةٌ حَيْرَى، وَأَوْلاَدٌ تَائِهُونَ فِي ضَيْعَةٍ كُبْرَى، وَمَنْ عُوفِيَ فَلْيَحْمَدِ الْمَوْلَى.
اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا مُنْكَرَاتِ الأَخْلاَقِ وَالأَهْوَاءِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَاحْفَظْنَا وَأَوْلاَدَنَا وَمُجْتَمَعَاتِنَا وَبِلاَدَنَا وَبِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْمُسْكِرَاتِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَضَارِّ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ، أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْلَ وَالْمِزَاجَ! وَمَا قِيمَةُ الْمَرْءِ إِذَا فَسَدَ عَقْلُهُ وَمِزَاجُهُ؟ يَتَعَاطَى الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ، فَيَرْتَكِبُ الآثَامَ وَالْخَطَايَا، وَمَا يَنْدَمُ عَلَيْهِ حِينَ يَصْحُو، وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ؛ فَضْلاً عَنْ كُفْرَانِ أَعْظَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللهُ عَلَى الإِنْسَانِ بَعْدَ الدِّينِ وَالإِسْلاَمِ وَهِيَ نِعْمَةُ الْعَقْلِ وَالإِدْرَاكِ الَّتِي كَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بَنِي الإِنْسَانِ بِهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَـاهُمْ مّنَ الطَّيّبَـاتِ وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء:70] كَرَّمَهُ اللهُ بِالْعَقْلِ، وَزَيَّنَهُ بِالْفَهْمِ، وَوَجَّهَهُ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، فَكَانَ الْعَقْلُ مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الإِنْسَانِ، بِهِ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ وَبِهِ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَبِهِ يَسْعَدُ فِي حَيَاتِهِ، وَيُدَبِّرُ أُمُورَهُ وَشُئُونَهُ، بِهِ يَتَمَتَّعُ وَيَهْنَأُ، وَبِهِ تَرْتَقِي الأُمَمُ وَتَتَقَدَّمُ الْحَيَاةُ؛ وَمَعَ ذَلِكَ يَعْمَدُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِزَوَالِهِ وَالسَّعْيِ فِي ذَهَابِهِ بِاخْتِيَارِهِ!
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: لَوْ كَانَ الْعَقْلُ يُشْتَرَى، لَتَغَالَى النَّاسُ فِي ثَمَنِهِ، فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَشْتَرِي بِمَالِهِ مَا يُفْسِدُهُ!
فَاتَّقُوا اللهُ -عِبَادَ اللهِ-، وَاحْذَرُوا وَحَذِّرُوا مِنْ هَذَا الْخَطَرِ الشَّدِيدِ عَلَيْنَا وَعَلَى أَبْنَائِنَا وَمُجْتَمَعَاتِنَا وَبِلاَدِنَا؛ فَكُلُّنَا مَسْؤُولٌ عَنْ أَوْلاَدِهِ وَبِلاَدِهِ، وَلَيْسَتِ الْمَسْؤُولِيَّةُ فَقَطْ عَلَى رِجَالِ الأَمْنِ، بَلْ كُلُّنَا رِجَالُ أَمْنٍ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [ المائدة : 2 ] ؛ هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم.