[align=justify]كان يقضي تلك الساعات الصعبة بين ذهاب وعودة أمام باب غرفة العمليات مطرقاً رأسه وكأنه يقوم بعدّ بلاط الممرّ واحدة واحدة ولا يرفع رأسه إلا ليلقي نظرة على ساعة الحائط المعلقة ليعرف كم مضى من عمره وكم بقي من صبره !
كل ما سبق هو الشيء الوحيد الذي كان يبدو لكل من كان يعاين ذلك المشهد فلم يكن يبدو من الرجل إلا قلقه وذهابه وعودته في الممر ونظراته لعقارب ساعة كأنه يخشى أن تلدغه ، لكن شيئاً آخر كان يحمله ذلك الرجل ولم يكن يبدو للأخرين ؛ إنه ذكريات عام كامل كان قد مرّ به من لدن قراره الزواج وحتى صراخ زوجته الحامل نتيجة آلام حادة في بطنها قرر على إثرها الطبيب إجراء عملية قيصرية لها ، عام كامل يمرّ الآن في مخيلته بمرّه ومرّه إذ لاحلو فيه وكأنه قام بعمل رجيم ضد السعادة فتجنب اللحظات الحلوة ! ، عام كامل من المشاكل الزوجية المتشكلة نتيجة الفقر والعوز والعجز أمام طلبات زوجة عاشت في بيت فقير مع والد فقير تشبثت في أول زوج تقدم لخطبتها ظناً منها أنه سيكون طوق النجاة الذي سيصل بها إلى بر الغنى ، ولكنها انصدمت بفقر لا يختلف كثيراً عن ذلك الفقر الذي عاشت في كنفه منذ الصغر فباتت تخلق المشاكل تلو المشاكل فلاشيء في بيت الزوجية يستحق أن تحافظ عليه ، عام كامل يمر في مخيلته منذ معاناة أول حصوة إيجار لشقته الصغيرة وحتى أصبحت تلك الحصى بعد تجمعها جبلاً من المشقة يقبع على كاهله ، وعام كامل من العمل الشاق المتعب الذي يبدأ منذ الصباح وينتهي بعد المساء والذي لم يكن ليقبل به لولا خطوته غير المدروسة لدخول القفص وقبوله الزواج ، عام كامل قضى أغلبه في مراجعات للحصول على حكم من المحكمة بإثبات زواجه وكأنه قد واقع زوجته على قارعة الطريق كما يفعل الساقطون ، عام كامل من التفكير في المستقبل والخوف من المجهول، عام كامل قضى أشهره الأولى في التفكير بعدم الإنجاب حتى لا يجني على أحد بعده وحتى لا يُرزق بطفل تبدأ أولى خطوات معاناته مع استخراج شهادة ميلاد له ، عام كامل من الركض خلف سراب المانشيتات والجري خلف مواعيد عرقوب والتي لم يكن ليأبه بها لولا كونه ربّ أسرة كما يصفونه ، عام كامل كانت بدايته في ديوانية متهالكة لعقد قران على يد شيخ مسجد بعشرين ديناراً وهاهي نهايته تتمثل في الوقوف بقلق أمام باب غرفة العمليات في انتظار الخبر ، وكأنه وعلى غرار الأفلام المصرية حين كان الدكتور يخرج من غرفة العمليات ليقول للأب "إحنا اضطرينا نضحي بالجنين عشان الأم تعيش" كان يتمنى أن يحضر إليه الدكتور ليقول له "إحنا اضطرينا نضحي بالأم والجنين عشان الأب يعيش" ! ، ولكنه في لحظات قلقه ذاك تأتيه البشارة من الممرضة : "مبروك جالك ولد ... حتسميه أيه ؟!" فيرد وهو مطرق رأسه : سمّوه "فرج" !


‏‫منصور الغايب
@Mansour_m[/align]