*
*



وَلَمْ أَزَلْ أَحْدَث نَفْسِي بِمِثْل هَذَا اَلْحَدِيث حَتَّى أَقْبَلَ اَللَّيْل فَمَرَرْت بِسَاحَة مُظْلِمَة
مُوحِشَة تَتَطَايَر فِي جَوّهَا أَسْرَاب مِنْ اَلطَّيْر غَادِيَة رَائِحَة بِالْإِغْوَاءِ حَتَّى بَلَّغَتْ
أَبْعَد بِقَاعِهَا فَرَأَيْت مَنْظَرًا هَائِلًا لَا يَزَال أَثَره عَالِقًا بِنَفْسِي حَتَّى اَلسَّاعَة .
رَأَيْت اَلشَّيْخ جُثَّة مُعَفَّرَة بِالتُّرَابِ لَا رَأْس لَهَا وَلَا أَطْرَاف ثُمَّ رَأَيْت رَأْسه وَأَطْرَافه
مُبَعْثَرَة حَوَالَيْهِ مأنها نوادب يَنْدُبْنَهُ حَاسِرَات وَرَأَيْت اَلْفَتَى مَشْدُودًا إِلَى شَجَرَة
فرعاء كَأَنَّهُ بَعْض أَغْصَانهَا وَقَدْ سَالَ جَمِيع مَا فِي عُرُوقه مِنْ اَلدَّم حَتَّى أَصْبَحَ شَبَحًا
مَاثِلًا أَوْ خَيَالًا سَارِيًا وَرَأَيْت اَلْفَتَاة كُتْلَة حَمْرَاء مِنْ اَللَّحْم لَا يَسْتَبِين لَهَا
رَأْس وَلَا قَدَم وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهَا ‎ أَكْوَام مِنْ اَلْحِجَارَة اَلْمُخَضَّبَة بِدِمَائِهَا ثُمَّ رَأَيْت
بِجَانِب هَذِهِ اَلْجُثَث اَلثَّلَاث حُفْرَة جَوْفَاء تفهق بِالدَّمِ فَعَلِمَتْ أَنَّهَا مَجْمَع دِمَاء
هَؤُلَاءِ اَلْمَسَاكِين فَشَعَرَتْ كَأَنَّ سَحَابَة سَوْدَاء تَهْبِط عَلَى عَيْنِي قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى غَابَ
عَنْ نَظَرَيْ كُلّ شَيْء فَسَقَطَتْ فِي مَكَانِي لَا أَشْعُر بِشَيْء مِمَّا حَوْلِي فَلَمْ أستفق حَتَّى مَضَتْ
دَوْلَة مِنْ اَللَّيْل فَفَتَحَتْ عَيْنِي فَإِذَا شَبَح أَسْوَد يَدْنُو مِنَى رُوَيْدًا رُوَيْدًا فَارْتَعْت
لِمَنْظَرِهِ وَفَزِعْت إِلَى سَاق اَلشَّجَرَة فَاخْتَبَأَتْ وَرَاءَهُ فَمَا زَالَ يَتَقَدَّم حَتَّى صَارَ بِجَانِبِي
فَأُشْعِل مِصْبَاحًا صَغِيرًا كَانَ فِي يَده فَتُبَيِّنهُ عَلَى نُوره فَإِذَا عَجُوز شَمْطَاء فِي زِيّ
اَلْمَسَاكِين وَسَحْنَتهمْ فَمَشَتْ تَتَصَفَّح وُجُوه اَلْقَتْلَى حَتَّى بَلَغَتْ مَصْرَع اَلشَّيْخ فَجَثَتْ
بِجَانِبِهِ سَاعَة تُبْكِيه وَتَنْدُبهُ ثُمَّ مَشَتْ إِلَى رَأْسه وَأَشْرَافه فَجَمَعَتْهَا وَضَمَّتْهَا إِلَى
جُثَّته ثُمَّ بِالْإِغْوَاءِ لَهُ حُفْرَة تَحْت سَاق اَلشَّجَرَة فَدَفَنَتْهُ فِيهَا وَقَامَتْ عَلَى قَبْره تُوَدِّعهُ
وَتَقُول فِي سَبِيل اَللَّه مَا لَقِيَتْ فِي سَبِيلِي وَسَبِيل أَحْفَادك اَلْبُؤَسَاء أَيُّهَا اَلشَّهِيد
اَلْمَظْلُوم وَفِي ذِمَّة اَللَّه وَكَفَنه رَوْح طَارَ عَنْ جَسَدك وَجَسَد ضَمّه قَبْرك فَقَدْ كُنْت خَيْر
اَلنَّاس زَوْجًا وَأَبَا وَأَطْهَرهمْ لِسَانًا وَيَدًا وَأَشْرَفهمْ قَلْبًا وَنَفْسًا فَاذْهَبْ إِلَى رَبّك
لِتُلْقِيَ جَزَاءَك عِنْده وَاطْلُبْ إِلَيْهِ اَلرَّحْمَة لِجَمِيع اَلنَّاس حَتَّى لِقَاتِلِيك وَظَالِمِيك
وَاسْأَلْهُ أَنْ يُلْحِقنِي بِك وَشِيكًا فَلَا شَيْء يُعَزِّينِي عَنْك بَعْد فِرَاقك إِلَّا اَلْأَمَل فِي
لِقَائِك فَأَبْكَانِي بُكَاؤُهَا وَأَحْزَنَنِي مَنْظَرهَا وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا صَادِقَة فِيمَا تَقُول
وَأَنَّ سِيخهَا شَهِيد مِنْ شُهَدَاء اَلْقَضَاء وَأَحْبَبْت أَنْ أَقِف عَلَى قِصَّتهَا وَقِصَّته فَبَرَزْت مِنْ
مَخْبَئِي وَمَشَيْت إِلَيْهَا فَارْتَاعَتْ لِمَرْآيَ عِنْد اَلنَّظْرَة اَلْأُولَى ثُمَّ سَكَتَتْ كَأَنَّمَا ذَكَرَتْ
أَنْ لَا قِيمَة لِمَصَائِب اَلْحَيَاة بَعْد مُصَابهَا اَلَّذِي نَزَلَ بِهَا فابتدرتها بِقَوْلِي لَا
تُرَاعِي يَا سَيِّدَتِي فَإِنَّنِي رَجُل غَرِيب مِنْ هَذَا اَلْبَلَد لَا أَعْرِف مِنْ شَأْنه وَلَا مَنْ شَان
أَهْله شَيْئًا وَقَدْ رَأَيْت اَلسَّاعَة مَوْقِفك عَلَى هَذَا اَلْقَبْر وَتُفْجِعك عَلَى سَاكِنه فَرَثَيْت
لَك وَبَكَيْت لِبُكَائِك وَتَمَنَّيْت لَوْ أَفْضَيْت إِلَى بِذَات نَفْسك عَلَنِيّ استطيع أَنْ أَكُون لَك
عَوْنًا عَلَى هَمّك فاستعبرت بَاكِيَة وَأَنْشَأَتْ تُحَدِّثنِي وَتَقُول :
إِنَّ زَوْجِي لَمْ يَكُنْ فِي يَوْم مِنْ أَيَّام حَيَاته لِصًّا وَلَا سَارِقًا بَلْ قُضِيَ أَيَّام شَبَابه
وَكُهُولَته عَامِلًا مُجِدًّا لَا يَفْتُر سَاعَة وَاحِدَة عَنْ اَلسَّعْي فِي طَلَب رِزْقه وَرِزْق أَهْل
بَيْته حَتَّى كَبَرَ وَلَده وَكَانَ وَاحِده فَاشْتَدَّ بِهِ سَاعَدَهُ وَاحْتَمَلَ عَنْهُ بَعْد مَا كَانَ
يَسْتَقِلّ بِحَمْلِهِ مِنْ اَلْهَمّ وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَعِمْنَا بِهِ وَبِمَعُونَتِهِ حِقْبَة مِنْ اَلدَّهْر حَتَّى
نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَة اَلْمَوْت فَذَهَبَتْ بِحَيَاتِهِ أَحْوَج حا كُنَّا إِلَيْهِ وَخَلْف وَرَاءَهُ حمسة
أَوْلَاد صِغَار لَا يَتَجَاوَز أَكْبَرهمْ اَلْعَاشِرَة مِنْ عُمْره وَكَانَتْ قَدْ أَدْرَكَتْ أَبَاهُ
اَلشَّيْخُوخَة فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ هُمْ اَلْكِبَر وَهُمْ الثكل فَأَصْبَحَ عَاجِزًا عَنْ اَلْعَمَل لَا
يَسْتَطِيعهُ إِلَّا فِي اَلْفَنِّيَّة بَعْد اَلْفَنِّيَّة وَأَصْبَحْنَا جَمِيعًا فِي حَالَة مِنْ اَلشَّقَاء
وَالْبُؤْس لَا يَعْرِف مَكَانهَا مِنْ نُفُوسنَا إِلَّا مَنْ أَلَمَّ بِهِ فِي حَيَاته طَرَف مِنْهَا حَتَّى
طَلَعَتْ عَلَيْنَا شَمْس يَوْم مِنْ اَلْأَيَّام وَلَيْسَ فِي يَدنَا مَا نَقُوم بِهِ أصلاب صِغَارنَا وَلَا
مَا نعللهم بِهِ تَعْلِيلًا فَأَسْقُط فِي يَدنَا وَعَلَمنَا أَنَا هَالِكُونَ جَمِيعًا إِنْ لَمْ
يَتَدَارَكنَا اَللَّه بِرَحْمَة مِنْ عِنْده فَلَمْ أَرَ بُدًّا مِنْ أَنْ أَلْجَأ إِلَى اَلْخُطَّة اَلَّتِي يَلْجَأ
إِلَيْهَا كُلّ مُضْطَرّ عَدِيم فَبَرَزَتْ إِلَى اَلنَّاس أَتَعْرِضُ لِمَعْرُوفِهِمْ وأستندي مَاء أَكُفّهمْ
فَلَمْ أَجُدْ بَيْنهمْ مَنْ يُحْسِن إِلَى بِجُرْعَة أَوْ مُضْغَة وَلَا مَنْ يَدُلّنِي عَلَى سَبِيل ذَلِكَ وَكَانَ ‎
أَكْبَر مَا حَالَ بَيْنِي وَبَيْنهمْ وَصَرْف وُجُوههمْ عَنِّي أَنِّي أَلْبَس مُرَقَّعَة اَلشَّحَّاذِينَ وَلَا
أَحْمِل ركوتهم فَعُدْت إِلَى مَنْزِلِي وَبَيْن جَنْبِي مِنْ اَلْهَمّ مَا اَللَّه بِهِ عَلِيم فَرَايْت
اَلْأَطْفَال سهدا يتضاغون جُوعًا وَرَأَيْت اَلشَّيْخ جَالَسَا بَيْنهمْ يَبُلّ تُرْبَة اَلْأَرْض
بِدُمُوعِهِ وَيَقْرَع كَفّه بِكَفِّهِ لَا يَعْلَم مَاذَا يَصْنَع وَلَا يَكْفِ يَحْتَال وَلَوْ أَنَّ شَخْص اَلْمَوْت
بَرَزَ إِلَيَّ فِي تِلْكَ اَلسَّاعَة لَكَانَ مَنْظَره أَهْوَن عَلَى نَفْسِي مِنْ مَنْظَر هَؤُلَاءِ اَلصِّبْيَة
وَهُمْ يُحَدِّقُونَ فِي وَجْهِي عِنْد دُخُولِي وَيَدُورُونَ حَوْلِي لِيَرَوْا هَلْ عُدْت إِلَيْهِمْ بِمَا يَسُدّ
جَوَّعَتْهُمْ وَمَا عُدْت إِلَيْهِمْ إِلَّا بِالْيَأْسِ اَلْقَاتِل وَالْكَمَد اَلشَّامِل فَتَقَدَّمْت نَحْو اَلشَّيْخ
وَقُلْت لَهُ أَنَّ فِي دَيْر اَلْمَدَنِيَّة كَمَا يَزْعُمُونَ مَالًا لِلصَّدَقَاتِ يَتَوَلَّى اَلْكَاهِن الأظم
إِنْفَاقه عَلَى اَلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين فَلَوْ ذَهَبَتْ إِلَيْهِ وَكَشَفَتْ لَهُ خَلَّتْك وَسَأَلَتْهُ أَنْ
يَمْنَحك علالة تَسْتَعِين بِهَا عَلَى أَمْرك لَرَجَوْنَا أَنْ نُطْفِئ لَوْعَة هَؤُلَاءِ اَلْأَطْفَال
اَلْمَسَاكِين فَاسْتَنَارَ وَجْهه بِنُور اَلْأَمَل وَقَامَ إِلَى عَصَاهُ فَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا وَمَشَى إِلَى
اَلدَّيْر حَتَّى بَلَّغَهُ فَصَعِدَ إِلَى حُجْرَة اَلْكَاهِن حَتَّى وَقَفَ بَيْن يَدَيْهِ فَنَفَضَ لَهُ جُمْلَة حَاله
وَسَكَبَ تَحْت قَدَمَيْهِ جَمِيع مَا أَبْقَتْ اَلْأَيَّام فِي جَفْنَيْهِ القريحين مِنْ دُمُوع فَاسْتَقْبَلَهُ
اَلْكَاهِن بِأَقْبَح مَا يَسْتَقْبِل بِهِ مَسْئُول سَائِلًا وَقَالَ لَهُ اَلدَّيْر لَا يُحْسِن إِلَّا إِلَى
اَلَّذِينَ أَسْلَفُوهُ اَلْإِحْسَان مِنْ قَبْل وَمَا كُنْت فِي يَوْم مِنْ أَيَّام رَغَدك وَرَخَاءَك مِنْ
اَلْمُحْسِنِينَ إِلَيْهِ فَاذْهَبْ لِشَأْنِك فَأَبْوَاب اَلْعَيْش وَاسِعَة بَيْن يَدَيْك فَإِنْ ضَاقَتْ بِك
فَأَبْوَاب اَلْجَرَائِم أَوْسَع مِنْهَا فَخَرَجَ مِنْ حَضَرْته كَئِيبًا مَحْزُونًا لَا يَرَى فَضَاء
اَلدُّنْيَا فِي نَظَره إِلَّا كَكِفَّة اَلْحَابِل أَوْ أفحوص اَلْقَطَاة حَتَّى نَزَلَ إِلَى سَاحَة اَلدَّيْر
فَلَمَحَ فِي إِحْدَى زَوَايَاهُ غرارة دَقِيق فَحَدَّثَتْهُ نَفْسه بِهَا وَمَا كَانَتْ تُحَدِّثهُ لَوْلَا
اَلْعَوَز وَالْفَاقَة ثُمَّ أَدْرَكَهُ اَلْحَيَاء فأغضى عَنْهَا وَاسْتَمَرَّ سَائِرًا فِي طَرِيقه حَتَّى صَارَ
بِجَانِبِهَا فَوَقِّعْ نَظَره عَلَيْهَا مَرَّة أُخْرَى فَعَاوَدَهُ حَدِيثه اَلْأَوَّل فَحَاوَلَ دَفْعه فَلَمْ
يَسْتَطِعْ فَجَلَسَ بِجَانِبِهَا يَحْدُث نَفْسه وَيَقُول إِنَّ اَلطَّعَام طَعَام اَلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين
وَأَنَا فَقِير مِسْكِين لَا ‎ أَعْلَم أَنَّ بَيْن أَسْوَار هَذِهِ اَلْمَدَنِيَّة وَلَا فِي جَمِيع أرباضها
رَجُلًا أَحْوَج وَلَا أَفْقَر مِنِّي فَإِنْ كَانَ اَلطَّمَع فِي هَذِهِ الغرارة جَرِيمَة فَقَدْ أَذِنَ لِي
اَلْكَاهِن بِارْتِكَاب اَلْجَرَائِم فِي سَبِيل اَلْعَيْش ثُمَّ مَشَى إِلَيْهَا فَاحْتَمَلَهَا عَلَى ظَهْره
وَمَشَى بِهَا جَاهِدًا مترجحا فَمَا تج - اوز عَتَبَة اَلدَّيْر حَتَّى أَثْقَلَهُ اَلْحَمْل وَشَعَرَ أَنَّهُ
عَاجِز عَنْ اَلسَّمِير فَحَدَّثَتْهُ نَفْسه بِإِلْقَائِهِ عَنْ ظَهْره ثُمَّ تمقل لَهُ مَنْظَر أَحْفَاده
اَلصِّغَار وَهُمْ ألقاء تَحْت جُدْرَان اَلْبَيْت يَتَضَوَّرُونَ جُوعًا فَحِمْل عَلَى نَفْسه وَمَشَى
يَعْتَمِد عَلَى عَصَاهُ مَرَّة وَعَلَى اَلْجِدَار مَرَّة وَعَلَى اَلْجِدَار كُرَة أُخْرَى حَتَّى نَالَ مِنْهُ
اَلْجُهْد فَأَحَسَّ كَأَنَّ أَنْفَاسه قَدْ جَمَّدَتْ فِي صَدْره لَا تَهْبِط وَلَا تَعْلُو وَأَنَّ مَا كَانَ
بَاقِيًا فِي عَيْنَيْهِ مِنْ نُور قَدْ أنطفأ دُفْعَة وَاحِدَة فَأَصْبَحَ لَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا حَوْله
وَإِذَا نفثة مِنْ دَم دفقت مِنْ صدرة فَانْحَدَرَتْ عَلَى رِدَائِهِ فَسَقَطَ فِي مَكَانه مَغْشِيًّا
عَلَيْهِ وَلَمْ يَزَلْ عَلَى حَاله تِلْكَ حَتَّى مَرَّ بِهِ اَلْعَسَس فَرَأَوْهُ وَرَأَوْا الغرارة بِجَانِبِهِ
فَارْتَابُوا بِهِ وَكَانَ رُهْبَان اَلدَّيْر قَدْ أَخَذُوا يَتَصَايَحُونَ فِيمَا بَيْنهمْ الغرارة
الغرارة وَيَنْشُدُونَهَا فِي أَنْحَاء اَلدَّيْر حَتَّى يَئِسُوا مِنْهَا فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَهَا فِي كُلّ
مَكَان حَتَّى اِلْتَقَوْا بِالْعَسَسِ حَوْل مَصْرَع اَلشَّيْخ فَعَرَفُوا ضَالَّتهمْ وَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَة
حَتَّى كَانَتْ الغرارة فِي اَلدَّيْر وَكَانَ اَلشَّيْخ فِي اَلسِّجْن ثُمَّ كَانَ بَعْد ذَلِكَ مَا رَأَيْت
مِنْ أَمْره فوا أسفاه عَلَيْهِ لَقَدْ مَاتَ شَهِيدًا مَظْلُومًا ووارحمتاه لِي وَلِأَطْفَالِي
اَلْبُؤَسَاء اَلْمَسَاكِين مِنْ بَعْده !
ثُمَّ نَهَضَتْ مِنْ مَكَانهَا وَمَسَحَتْ عَبْرَتهَا بِطَرَف رِدَائِهَا وَنَظَرَتْ إِلَى اَلْقَبْر نَظْرَة طَوِيلَة
وَقَالَتْ اَلْوَدَاع يَا رَفِيق صِبَايَ وَعِمَاد شَيْخُوخَتِي اَلْوَدَاع يَا خَيْر اَلْأَزْوَاج وَأَبِرّ
العشراء اَلْوَدَاع حَتَّى يَجْمَع اَللَّه بَيْنِي وَبَيْنك فِي دَار جَزَائِهِ ثُمَّ اِنْكَفَأَتْ رَاجِعَة
فِي اَلطَّرِيق اَلَّتِي جَاءَتْ مِنْهَا .
وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَغَلْغُل شَخْصهَا فِي أَعْمَاق اَلظَّلَام حَتَّى رَأَيْت شَبَحًا آخَر يَتَرَاءَى مِنْ
حَيْثُ اِخْتَفِي اَلشَّبَح اَلْأَوَّل وَمَا زَالَ يَتَقَدَّم نَحْوِي مُتَسَلِّلًا يَخْتَلِس خُطُوَاته اِخْتِلَاسًا
فَاخْتَبَأَتْ وَرَاء اَلشَّجَرَة لِأَرَى مَا هُوَ صَانِع وَكَانَ اَلْقَمَر قَدْ بَدَأَ يُشَرِّف عَلَى اَلْوُجُود
مِنْ مَطْلَعه وَيُرْسِل اَلْخُيُوط اَلْأُولَى مِنْ أَشِعَّته عَلَى تِلْكَ اَلسَّاحَة اَلْكُبْرَى فَرَأَيْت
اَلشَّبَح عَلَى نُوره فَإِذَا فَتَاة جَمِيلَة بَاكِيَة لَمْ أَرَ فِي حَيَاتِي دَمْعَة عَلَى خَدّ أَجْمَل
مِنْ دَمْعَتهَا عَلَى خَدّهَا فَدَارَتْ بِعَيْنَيْهَا لَحْظَة حَتَّى وَقَعَ نَظَرهَا عَلَى جُثَّة اَلْمَصْلُوب
بَيْن أَعْوَاد اَلشَّجَرَة فَمَشَتْ إِلَيْهِ وَمَدَّتْ يَدهَا إِلَى اَلْحَبْل اَلْمَشْدُود بِهِ فَعَالَجَتْ عُقْدَته
حَتَّى اِنْحَلَّتْ ثُمَّ اِحْتَمَلَتْهُ عَلَى يَدهَا وأضعجته عَلَى اَلْأَرْض وَوَقَفَتْ بِجَانِيهِ سَاعَة تَنْظُر
إِلَيْهِ جَامِدَة سَاكِنَة كَأَنَّهَا غَيْر آبِهَة وَلَا حَافِلَة ثُمَّ هَتَفَتْ صَارِخَة واشقيقاه !
وَسَقَطَتْ فوقة تَضُمّهُ وَتَقْبَلهُ وَتَلْثِم شِعْره وَجَبِينه وتزفر فِيمَا بَيْن ذَلِكَ زَفِيرًا
مُتَدَارِكًا كَأَنَّمَا تَنْفُث أَفْلَاذ كَبِدهَا نَفَثَا حَتَّى نَالَ مِنْهَا اَلْجُهْد فَتَرَنَّحَتْ قَلِيلًا
ثُمَّ هَوَتْ بِجَانِبِهِ هَوَى اَلْ } دَعْ اَلسَّاقِط لَا حَرَاك بِهَا فَأَهَمَّنِي أَمَرَهَا وَخَفَتَ أَنْ يَكُون
قَدْ اَلْحَقّ بِهَا مَكْرُوه فَمَشَيْت إِلَيْهَا حَتَّى صِرْت بِجَانِبِهَا فَشَعَرَتْ بِأَنْفَاسِهَا اَلضَّعِيفَة
تَتَرَدَّد فِي صَدْرهَا فَعَمِلَتْ أَنَّهَا حَيَّة فَجَلَسَتْ فَوْق رَأْسهَا أَنْدُبهَا وَأَدْعُو اَللَّه لَهَا
حَتَّى استفاقت بَعْد هُنَيْهَة فَرَأَيْتنِي بِجَانِبِهَا فَنَظَرَات إِلَى نَظْرَة حَائِرَة ثُمَّ تَقَدَّمَتْ
نَحْوِي وَقَالَتْ عَلَى مَنْ تَبْكِي أَيُّهَا اَلرَّجُل اَلْغَرِيب ?
قُلْت أَبْكِي عَلَيْك يَا سَيِّدَتِي وَعَلَى فَقِيدك اَلْبَائِس اَلْمِسْكِين قَالَتْ نَعَمْ إِنَّهُ بَائِس
مِسْكِين فَابْكِ عَلَيْهِ يَا سَيِّدِي كَثِيرًا فَقَدْ كَانَ زِينَة اَلشَّبَاب وَزَهْرَة اَلْحَيَاة وَرَيْحَانَة
اَلنُّفُوس وَمُتْعَة اَلْأَفْئِدَة وَالْقُلُوب وَلَقَدْ ظَلَمُوهُ إِذْ قَتَلُوهُ فَمَا كَانَ قَاتِلًا وَلَا
مُجْرِمًا وَلَكِنَّهُ رَجُل رَأَى عَرْضه فَرِيسَة فِي يَد مَنْ يُرِيد تَمْزِيقه فَقَطْع تِلْكَ اَلْيَد
اَلْمُمْتَدَّة إِلَيْهِ وَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ وَلِلشَّرَفِ وَالْفَضِيلَة مِنْهَا وَلَوْ أَنْصَفُوهُ لَا ستبقوه
رَحْمَة بِهِ وَيُسَابّهُ فَمَا ‎ أَجْرَمَ مَنْ ذَادَ عَنْ عَرْضه وَلَا أَثِمَ مِنْ قَتْل قَاتِله قُلْت هَلْ لَك
أَنْ تَقُصِّي عَلَيَّ قِصَّته يَا سَيِّدَتِي ? قَالَتْ نَعَمْ .


*
*