ليس غريباً أن تنتعش فكرة الحوار الوطني في الدول والمجتمعات التي تخضع للاستعمار أو للاحتلال. فهذه الفكرة لا توجد مثلاً في أميركا وبريطانيا، ولا في الدول المتقدمة عموماً، ولا حتى في الدول المستقرة. إنها توجد فقط في الدول التي لا تملك السيادة الكاملة على قراراتها، وفي الدول التي يوجد بداخلها تأثير استعماري واضح، أو دول محتلة بالفعل كالعراق وأفغانستان وما شاكلها. وتوجد هذه الفكرة كذلك بشكل عام في الدول التي تسمى بدول العالم الثالث التي يلاحظ فيها تمدد النفوذ الاستعماري كما يلاحظ فيها المصالح الكبيرة للدول العظمى.

لابد لنا لكي نناقش هذه الفكرة من جميع جوانبها، ولكي نوفيها حقها، من أن نتناول فيها خمسة عناصر توضحها توضيحاً تاماً وبالتالي يتأتى لنا أن نحكم عليها حكماً صحيحاً يطابق واقعها.
وهذه العناصر الخمسة هي: مرجعية الحوار وموضوعه وأطرافه وغايته ونتائجه.
أما مرجعية فكرة الحوار الوطني فإنها تستند على الوطن بوصفه الأساس أو المظلة الذي تستند إليه الفكرة وتستظل بظلها. والوطن في هذه الحالة يعني جميع التيارات الفكرية والسياسية الفاعلة والمعترف بها من قبل النظام التي يضمها الوطن على ترابه. فالمرجعية في الحوار الوطني تعترف بشتى الأفكار والتيارات الموجودة التي تعترف بالنظام السياسي القائم داخل حدود الوطن سواء أكانت صحيحة أم باطلة، عادية أم شاذة، تخالف الإسلام أم توافقه. وعلى سبيل المثال يُعترف في العراق بالصابئة وعبدة الشياطين والآشوريين في الحوار الوطني، بينما لا يُعترف بتيارات المقاومة الإسلامية. ويُعترف كذلك في كثير من البلدان الإسلامية بتيارات فكرية واضحة العمالة لأميركا كتيارات الليبرالية الجديدة، بينما لا يُعترف بحزب التحرير لأن فكره الداعي إلى إقامة الخلافة يتعارض مع النظام السياسي الموجود.
إن هذه المرجعية لفكرة الحوار الوطني تخالف تماماً مرجعية الحوار أو الجدال في الإسلام، بل إنها تخالف اعتبار الإسلام الأساس الوحيد في مرجعية أي شيء وهذا يناقض قوله تعالى:  فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا  [النساء 59] الذي يجعل أساس التحاور والتحاكم الوحيد الكتاب والسنة، وبالتالي فلا يجوز في الإسلام أن يُعترف بأي تيار فكري لا يستند إلى الكتاب والسنة بوصفه أساساً ومرجعية ومرتكزاً ومقياساً. ومن هنا كانت مرجعية فكرة (الحوار الوطني) مرجعية باطلة شرعاً لأنها تستند إلى تعددية فكرية وعقائدية، ولا تستند إلى الكتاب والسنة فقط.
وأما الموضوع الذي تقوم عليه فكرة (الحوار الوطني) فإنه يتناقض مع الأحكام الشرعية تناقضاً صريحاً، ولو أخذنا على سبيل المثال موضوع الحوار الوطني الفلسطيني لوجدناه يؤكد حقيقة هذا التناقض مع الإسلام. فموضوع الحوار الرئيسي المطروح على جدول أعمال المتحاورين الفلسطينيين هو الاعتراف بالدولة اليهودية، والاعتراف بالاتفاقات الموقعة معها، والاعتراف بالمرجعية الدولية وبالمرجعية العربية لحل القضية الفلسطينية.
ومعلوم أن الاعتراف بالكيان اليهودي المغتصب في الوجود على معظم أرض فلسطين حرام شرعاً، وأن جميع تلك المرجعيات المطروحة لحل القضية الفلسطينية هي محرمة شرعاً، وذلك لأن تلك المرجعيات تقر بالاحتكام إلى قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والجامعة العربية، وكلها قرارات كفر وبطلان تتصادم مع الأحكام الشرعية.
وعليه يكون موضوع (الحوار الوطني) مخالفاً للفكر الإسلامي وللحكم الشرعي وبالتالي فلا شرعية لحوار موضوعه غير شرعي.
وأما أطراف (الحوار الوطني) فإن طرفاً على الأقل أو أكثر من أطراف الحوار يتمثل دائماً في السلطة الحاكمة، ونحن نعلم يقيناً أن السلطات الحاكمة في بلداننا ما هي في الواقع سوى وكيل سياسي يمثل مصالح الدول الكبرى المستعمرة في تلك البلدان. وهذا معناه أننا عندما نتحاور مع الحكومة أو السلطة في أقطارنا الإسلامية فإننا نتحاور في الواقع مع مبعوثين أو مندوبين للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وللدول العظمى بشكل عام. ولا شك أن هذا الحوار مع هؤلاء هو حرام شرعاً لأنه يجعل للكفار أكبر سبيل على المسلمين والله سبحانه يقول:  وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا  [النساء 141].
وأما الغاية من (الحوار الوطني) فإنها تكون دائماً للوصول إلى حل وسط بين المتحاورين، والحل الوسط لا ريب بأنه حل غير إسلامي لأنه يجري فيه تنازل كل طرف من أطراف الحوار عن جزء من ثوابته لكي يتوافق المتحاورون على حل يرضي الجميع. ولو سلمنا جدلاً بوجود طرف إسلامي صادق في الحوار فإن عليه لزاماً أن يتنازل عن جزء على الأقل من ثوابته حتى يلتقي مع التيارات العلمانية والحكومية في منتصف الطريق. وهذا من شأنه أن يجعل الغاية المراد الوصول إليها بين المتحاورين بعيدة كل البعد عن الغايات الشرعية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحل الوسط هذا يعني أننا قبلنا من حيث المبدأ الحكم بغير ما أنزل الله ورضينا بالتحاكم إلى الطاغوت، وبتحكيم قوانين الكفر في حياتنا، والله سبحانه وتعالى يحذرنا من ذلك فيقول:  وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ  [المائدة 49] ويقول:  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا  [النساء 60].
وأما نتائج (الحوار الوطني) فإنها عادة ما تكون محسومة لصالح أعداء الأمة من الكفار والمنافقين والعملاء. ولعل النتائج التي تمخضت عن الحوارات الوطنية التي جرت في بلدان إسلامية لأكبر دليل على هذه الحقيقة. فنتائج الحوار الذي جرى في العراق وأفغانستان وفلسطين وكشمير والسودان كانت دائماً عبارة عن حروب أهلية أدَّت إلى تمزيق البلدان إلى كيانات صغيرة وتفريق الأمة إلى أمم، وإلى مجموعات عرقية ومذهبية وفصائلية، وإلى تمكين الكافر المستعمر من زرع عملائه في أعلى هرم السلطة في تلك البلدان.
وزد على ذلك التخلف والتأخر والفقر والمجاعات التي سادت في تلك البلدان، وفوق ذلك التبعية المطلقة للأعداء بحيث أصبح الولاء للكفار أمر بديهي ونتيجة حتمية لأي حوار وطني والله سبحانه قد خوَّفنا من عاقبة طاعة الكفار بالخسران فقال:  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ  [آل عمران 149].
وبذلك كله يتضح لنا جلياً أن فكرة (الحوار الوطني) هي فكرة غير إسلامية رمانا بها الكافر المستعمر؛ لتنخر في جسم أمتنا فتكاً وتدميراً تحت شعارات (المصالحة الوطنية) و(الوئام الوطني) و(التوافق الوطني)، مع أنها في الحقيقة ما هي سوى فكرة استعمارية خبيثة ترمي إلى التطاحن والاقتتال، وتكريس التبعية والتخلف والتشرذم.

أحمد الخطيب ـ القدس
http://www.al-waie.org/issues/237/ar...=P421_0_33_0_C