محمدالمهوس
07-02-2024, 08:48
« الحب في الله »
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنْ دِينِكُمْ بِتَوْحِيدِ رَبِّكُمْ، وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنَ الْخِصَالِ النَّبِيلَةِ، وَالْقِيَمِ الْجَمِيلَةِ، وَالأَعْمَالِ الْجَلِيلَةِ: الْحُبُّ فِي اللهِ، فَهِيَ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإِيمَانِ، وَدَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الإِنْسَانِ، وَتَمَامِ الإِحْسَانِ.
هِيَ عَمَلٌ جَلِيلٌ يَجِدُ الْمَرْءُ فِيهِ طَعْمَ الإِيمَانِ؛ لأَنَّهُ عَمَلٌ يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ ، وَيُجَازِي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ فَفِي الدُّنْيَا سَعَادَةٌ مُعَجَّلَةٌ؛ حَيْثُ تَجْتَمِعُ الْقُلُوبُ عَلَى الْمَحَبَّةِ للهِ بَعِيدًا عَنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ، وَالتَّوَاصِي عَلَى الْحَقِّ وَالصَّبْرِ، اجْتَمَعَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْمَحَبَّةِ فِي اللهِ فَنَالُوا مَحَبَّةَ اللهِ؛ قَالَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشقَ، فَإِذَا فَتًى بَرَّاقُ الثَنَايَا وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ، أَسْنَدُوهُ إِلَيهِ، وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقِيل: هَذَا مُعَاذ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْه- فَلَمَّا كان مِنَ الغَدِ، هَجَّرْتُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبِقَنِي بِالتَهْجِيرِ، وَوَجَدتُهُ يُصَلِّي، فَانتَظَرتُهُ حَتَّى قَضَى صَلاَتَه، ثُمَّ جِئتُهُ مِن قِبَلِ وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلتُ: وَالله إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّه، فَقَال: آللهِ؟ فَقُلتُ: آللهِ، فَقَالَ: آللهِ؟ فقُلْتُ: آللهِ، فَأَخَذَنِي بَحَبْوَةِ رِدَائِي، فَجَبَذَنِي إِلَيه، فَقَال: أَبْشِر! فَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلمُتَحَابِّين فِيَّ، وَالمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ» [ أخرجه أحمد، وصححه ابن باز ].
أَمَّا فِي الآخِرَةِ، فَهِيَ أَجْرٌ وَثَوَابٌ، تَرْفَعُ الْمُحِبَّ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ مَنْزِلَةً وَإِيمَانًا، وَأَكْثَرُ اجْتِهَادًا وَعَمَلاً، فَالْمَرْءُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّهُ فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ أَحَبَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ، وَأَتْبَاعَهُ، وَسَلَفَهُ الصَّالِحَ؛ حَشَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زُمْرَتِهِمْ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟». قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، حِينَ يَشْتَدُّ الزِّحَامُ، وَيَطُولُ الْقِيَامُ، يُنَادِي رَبُّ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ؛ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي» [رواه مسلم].
وَفِي حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ، ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -مِنْهُمْ: «وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» [متفق عليه].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ كُلِّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنَا إِلَى حُبِّكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَحَبَّةَ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِأُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: أَنْ تَكُونَ للهِ أَوْ لأَجْلِهِ أَوْ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَمِنْ وَاجِبَاتِ الإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى، وَمَحَبَّةُ رَسُولِهِ، وَمَحَبَّةُ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة: 24].
وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ الَّتِي لاَ تَجُوزُ فَهِيَ مَحَبَّةُ غَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَحَبَّةِ اللهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ﴾
[ البقرة: 165 ]، وَالأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحَبَّةُ غَيْرِ اللهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ، وَهَذَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ غَايَةُ الشِّرْكِ وَالضَّلاَلِ.
وَمِمَّا لاَ يَجُوزُ مَحَبَّتُهُ وَلَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ: مَحَبَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ أَوْ مَحَبَّةُ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ﴾ [الممتحنة: 1].
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ: «مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ، لاَ يَجُوزُ لَهُ مُوَالاَةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ، وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» [ ثلاثة الأصول ]
وَمِمَّا لاَ يَجُوزُ مَحَبَّتُهُ وَلَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ: مَحَبَّةُ الْمَعَاصِي وَأَهْلِهَا أَوْ تَعَلُّقُ الْقُلُوبِ بِهَا، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ، وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، فَمَا فِي الأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ، وَلَا أَكْسَفُ بَالًا، وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا، وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا سِوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَالضَّرَرُ حَاصِلٌ لَهُ بِمَحْبُوبِهِ: إِنْ وُجِدَ وَإِنْ فُقِدَ! فَإِنَّهُ إِنْ فَقَدَهُ: عُذِّبَ بِفِرَاقِهِ، وَتَأَلَّمَ عَلَى قَدْرِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِهِ.
وَإِنْ وَجَدَهُ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الأَلَمِ قَبْلَ حُصُولِهِ، وَمِنَ النَّكَدِ فِي حَالِ حُصُولِهِ، وَمِنَ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ فَوْتِهِ أَضْعَافَ، أَضْعَافَ مَا فِي حُصُولِهِ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ!».
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَأَخْلِصُوا مَحَبَّتَكُمْ للهِ تَعَالَى، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [ الأحزاب : 56 ] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنْ دِينِكُمْ بِتَوْحِيدِ رَبِّكُمْ، وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنَ الْخِصَالِ النَّبِيلَةِ، وَالْقِيَمِ الْجَمِيلَةِ، وَالأَعْمَالِ الْجَلِيلَةِ: الْحُبُّ فِي اللهِ، فَهِيَ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإِيمَانِ، وَدَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الإِنْسَانِ، وَتَمَامِ الإِحْسَانِ.
هِيَ عَمَلٌ جَلِيلٌ يَجِدُ الْمَرْءُ فِيهِ طَعْمَ الإِيمَانِ؛ لأَنَّهُ عَمَلٌ يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ ، وَيُجَازِي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ فَفِي الدُّنْيَا سَعَادَةٌ مُعَجَّلَةٌ؛ حَيْثُ تَجْتَمِعُ الْقُلُوبُ عَلَى الْمَحَبَّةِ للهِ بَعِيدًا عَنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا، يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ، وَالتَّوَاصِي عَلَى الْحَقِّ وَالصَّبْرِ، اجْتَمَعَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْمَحَبَّةِ فِي اللهِ فَنَالُوا مَحَبَّةَ اللهِ؛ قَالَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشقَ، فَإِذَا فَتًى بَرَّاقُ الثَنَايَا وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ، أَسْنَدُوهُ إِلَيهِ، وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقِيل: هَذَا مُعَاذ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْه- فَلَمَّا كان مِنَ الغَدِ، هَجَّرْتُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبِقَنِي بِالتَهْجِيرِ، وَوَجَدتُهُ يُصَلِّي، فَانتَظَرتُهُ حَتَّى قَضَى صَلاَتَه، ثُمَّ جِئتُهُ مِن قِبَلِ وَجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلتُ: وَالله إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّه، فَقَال: آللهِ؟ فَقُلتُ: آللهِ، فَقَالَ: آللهِ؟ فقُلْتُ: آللهِ، فَأَخَذَنِي بَحَبْوَةِ رِدَائِي، فَجَبَذَنِي إِلَيه، فَقَال: أَبْشِر! فَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلمُتَحَابِّين فِيَّ، وَالمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ» [ أخرجه أحمد، وصححه ابن باز ].
أَمَّا فِي الآخِرَةِ، فَهِيَ أَجْرٌ وَثَوَابٌ، تَرْفَعُ الْمُحِبَّ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ مَنْزِلَةً وَإِيمَانًا، وَأَكْثَرُ اجْتِهَادًا وَعَمَلاً، فَالْمَرْءُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّهُ فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ أَحَبَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ، وَأَتْبَاعَهُ، وَسَلَفَهُ الصَّالِحَ؛ حَشَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زُمْرَتِهِمْ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟». قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، حِينَ يَشْتَدُّ الزِّحَامُ، وَيَطُولُ الْقِيَامُ، يُنَادِي رَبُّ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ؛ كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي» [رواه مسلم].
وَفِي حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ، ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -مِنْهُمْ: «وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» [متفق عليه].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ كُلِّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنَا إِلَى حُبِّكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَحَبَّةَ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِأُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: أَنْ تَكُونَ للهِ أَوْ لأَجْلِهِ أَوْ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَمِنْ وَاجِبَاتِ الإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ مَحَبَّةُ اللهِ تَعَالَى، وَمَحَبَّةُ رَسُولِهِ، وَمَحَبَّةُ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَحَبَّةُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة: 24].
وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ الَّتِي لاَ تَجُوزُ فَهِيَ مَحَبَّةُ غَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَحَبَّةِ اللهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ﴾
[ البقرة: 165 ]، وَالأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ مَحَبَّةُ غَيْرِ اللهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ، وَهَذَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ غَايَةُ الشِّرْكِ وَالضَّلاَلِ.
وَمِمَّا لاَ يَجُوزُ مَحَبَّتُهُ وَلَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ: مَحَبَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ أَوْ مَحَبَّةُ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ﴾ [الممتحنة: 1].
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللهُ: «مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ، لاَ يَجُوزُ لَهُ مُوَالاَةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ، وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» [ ثلاثة الأصول ]
وَمِمَّا لاَ يَجُوزُ مَحَبَّتُهُ وَلَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ: مَحَبَّةُ الْمَعَاصِي وَأَهْلِهَا أَوْ تَعَلُّقُ الْقُلُوبِ بِهَا، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ، وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، فَمَا فِي الأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ، وَلَا أَكْسَفُ بَالًا، وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا، وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا سِوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَالضَّرَرُ حَاصِلٌ لَهُ بِمَحْبُوبِهِ: إِنْ وُجِدَ وَإِنْ فُقِدَ! فَإِنَّهُ إِنْ فَقَدَهُ: عُذِّبَ بِفِرَاقِهِ، وَتَأَلَّمَ عَلَى قَدْرِ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِهِ.
وَإِنْ وَجَدَهُ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الأَلَمِ قَبْلَ حُصُولِهِ، وَمِنَ النَّكَدِ فِي حَالِ حُصُولِهِ، وَمِنَ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ فَوْتِهِ أَضْعَافَ، أَضْعَافَ مَا فِي حُصُولِهِ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ!».
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَأَخْلِصُوا مَحَبَّتَكُمْ للهِ تَعَالَى، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [ الأحزاب : 56 ] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].