المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصتي وأنا تائهٌ في بلدي .. اقولها للعبرة .



محمد العربي
24-05-2007, 11:39
" ابن آدم خطاء "

شعارٌ يرفعه كل من خُذل في مسعاه وإن كان هو السبب في ذلك الخذلان . وقد فعلت ورفعت مثل هذا الشعار مراراً , فكان نهايةً مُعتادة لكل دورةٍ أُخذل فيها . وهنا تكمن المشكلة إذ لم أتعلم من خطئي الأول , بل بُت عليه مصراً لا أحيد عنه بل كُنت مجدداً له .. كُنت حينها بين مُكابرٍ وبين صاحب آمالٍ وأماني , لم أكن أستجيب لنداء العقل أو إرشاد المنطق أو لنصيحة الواقع أو توجيه الحقيقة . لم أتنبه لصيحات مجرب أو تنبيهات عاقلٍ أو توضيح رفيقٍ مشفق .

لقد كان من حولي ينشدونني العودة وأن أعترف بأخطائي وبما آلت إليه حياتي , وأن ابدأ حياتي من جديد وأن أجعل كل ما حدث لي في خانة الماضي المستمر .. المستمر كذكرى ليكون مانعاً لي إن أردت العودَ وأن يكون حاثاً للخطى للمضي قُدماً .. قُدماً دونما أسى وحزنٌ وعضٍ للأنامل .. تِلك الأنامل التي أفضت بي لواقعٍ مر ومستقبلٍ مُجهم !!

كثيرون هم مثلي مِن من تتكرر أخطاءهم ولا يتعضون منها , وكثيرون هم مثلي لا يريدون أن يفيقوا مِن ما وجدوه في طريقهم من خيبات وفشل وما رأوه على جنبات هذا الطريق من جرحى ومُصابين ومن كاظمين للغيض .. عليك نوووور أيها القاريء .. نعم وكما قلت في نفسك .. كلنا بشر والبشر من طباعهم انهم يخطؤون ومن طباعهم أيضاً أنهم ينسون أخطاءهم . لكن هذه التعزية لا تنفعني الآن ولا تعنيني مطلقاً .


الإنسان .. قد يضل هذا الإنسان طريقه يوماً , وأن ينجرف إلى حيث متاهات الهوى .. والغفلةِ .. والضياع .. وهذه الأمور تُشعره وقت أن تلُم به بأنه في عزلة وخلوة عن الناس وإن كان بينهم . لكنه إن استأنسها وألفها فهي تضعه في موقع الغير مبالٍ بمن حوله بعد أن كانوا غير مبالين به , بل وأنه هو المُهتدي والبقية في ضلالٍ وغي , وأنه سائرٌ على طريقٍ ناجح ومسلكٍ واضح . أما البقية عنده فهم قد أضاعوا هذا الطريق ورغبوا عنه إما لخوفٍ فيهم وشجاعةٍ فيه , أو لذكاءٍ يتمتع به وفطنة .. وهم .. لهم الغباء والجهل !

هذا ما يتصوره .. أو ما يُصور له ..

وهذه هي قصتي ..

كُنت فيما مضى رجلاً قنوعاً أرتضي ما قسمه الله لي , وقد كانت حياتي بسيطةً في كل شيء ومن أي شيء .. الملبس , السيارة , المسكن وحتى الزوجة التي رَضيت بحالي ورضيت بها , بل وحتى عند الحديث فأنا بعيدٌ كل البعد عن التكلف والتصنع .. وما كان ذاك إلا أني انسانٌ بسيط لا يملك من مظاهر هذه الدُنيا إلا ما أبلغ به مشوار هذه الدنيا ..

إلى أن أتى ذلك اليوم الذي قابلت فيه صدفةً أحد زملاء الدراسة قديماً , والذي غاب عني اسمه يوم أن رأيته , لكنني كُنت حينها متأكدٌ من معرفتي له ومتى وأين . لقد كان هذا الرجل يعيش في أُسرةٍ فقيرةً جداً , وكان بعد أن يُنهي دراسة ذلك اليوم يذهب مع أبيه حيث كان يعمل فلاحاً أجيراً عند أحدهم , لقد كان بيتهم متهالكاً ولا أُبالغ إن قلت أنه كان آيلاً للسقوط .. هذا إن لم يكن قد سقط فعلاً , كان الكل في اسرته يعمل حتى أخواته فقد كُن يُساعدن أمهن في صناعة بعض الأشغال اليدوية كالسلال والبخور والحِناء وغيرها ..

ما جعلني أتذكر تلك الحالة الكادحونَ أهلها , لا علاقة له في محاولتي إسترجاع الماضي وذلك حال أن ترى شخصاً لم تره منذ مدة , بل لما حدث للرجل من تغيراتٍ وتبديلات لاحظتها حال أن رأيته . حيث دل مظهرهِ على أنه من أصحاب المال والجاه .. اللذينِ هما نِعمي الصاحب والرفيق في هذا الزمان . لقد عُدت من حالهِ إلى حالي " ستر الله شأنه " لأرى من صاحبت ومن ألفت وهو هذا الحال الذي تلبسني وآثرني دون غيري .. البائس التعيس , والذي زدنا من أواصر الصحبة فيما بيننا حتى كدنا أن نبلغ مستوى المصاهرة بل والوصايةِ في الإرثِ أيضاً .

كُنت في محل بيع الخضار , وكُنت أنتقي ما أُريد إنتقاءاً كالعادة , وكأنني في مختبر تابعٍ لهيئةٍ حكومية قد عفا عنها الزمن وكان همها المستهلك أولاً وأخيراً .. فالطماطة الواحدة تبقى في يدي وقتاً وأنا ألفها وأتفحصها جيداً إلى أن أُجيزها فأجعلها مع من سبقها إلى الكيس الذي بيدي الأُخرى . حتى دخل زميل الدراسة " الذي ذكرته سابقاً " والذي ما أن رآه العمال في المحل حتى اصطفوا إليه مرحبين ومهللين غير مُبالين بي ولا مُكترثين بوجودي .. ولا ألومهم فقد كُنت أعبث بالنظام القائم لديهم والذي يُخالف الكثير من أنظمة الدول العربية .. والذي خلاصته " تقديم الرديء وانزواء الجيد وراءه "

لقد كان الرجل مُتعجرفاً معهم , يمشي مختالاً متكبراً أمامهم , وكان لا يرى هؤلاء الباعة شيئاً , وقد كانوا مع ذلك في أشد أنواع السعادة . لقد كان يسير مُباعداً بين قدميه كالبطريق , وبالكاد يقول الكلمة .. وإن قالها فهي تكون مُفخمة وغليظة لا تكاد تتناسق مع حركة الشفاه لديه , وذلك كما ألفنا من بعض أُمرائنا الكرام وكذلك بعض سكان مدينة الرياض .. كان لا يساوم ولا يُجادل ولا يعرف الكيلو أو الحِزمةِ أو الربطة أو حتى .. الحبة .. مما جعلني أنظرُ خِلسةً إلى تلكم الطماطات التي جمعتها في كيسٍ واحد بعد عناءٍ ومشقة .. والتي أشعرتني بأنني مواطنٌ صالح وكادح .. صِفتهِ الصم والبكم والعمي وطلب سِتر الحال !

تقابلنا عند المحاسب .. فقلت له .. أنا أعرفك أأنت سعد ؟! أجاب نعم .. ثم تساءل مُتعمداً الجهل .. وأنت أيضاً أعرفك ؟! هل درسنا سويةً .. قلت هو .. هو .. ولا أدري كم " هو " ذكرت حينها !!

أنا فايز .. أنا الذي يجلس أمامك في الفصل أنا الذي كُنت أُعينك في الامتحانات إذ كُنت أجلس بوضعٍ مائل حتى تُبصر ورقة اجاباتي .. .. أنا .. أنا .. أتذكر ذلك المُعلم الأصلع .. الخ . حتى جعلته يأسف في نفسه عندما تناسى اسمي متعمداً .

ثم قلت .. ما شاء الله العين عليك أبرد من الثلج .. ثم قلت ماشاء الله ايضاً .. وأيضاً ما شاء الله .. لقد تغيرت حالك أخي سعد " قد جعلته أخاً ولم أجعله زميل دراسة "

فتبسم وقال بلهجة الواثق والمُجرِب .. خذ الحكمة يا .. !! فقلت فايز طال عمرك .. فقال يا فايز " على الرجل أن لا يقنع بما هو بين يديه وأن يسعى إلى تطوير نفسه وترقيتها وعله يعلم أن المستقبل لا يجب أن يكون امتداداً للماضي مشابهاً له , وإلا فلا طعم حينها للحياة ولا نكهة ولا رائحة ..

في الحقيقة .. نعم .. قد قال صدقاً .. لم نقنعُ بما هو في أيدينا ؟! لم لا نبحث عن أساليب وطرق قد يعود علينا من وراءها خيرٌ كثير .. أين الثورة أين الانتفاضة .. لا لرفع الأسعار .. لا للغلاءِ الفاحش .. لا لإسرائيل لا للإمبريالية .. نعم نعم يا فلوجة !!

عفواً .. أظن أن تكملة الحديث مع أخينا " سعد " أكثر أماناً من تخريف مواطن عربي قد تغنى بالتأميم وتراقص على صوت التحرير وآثر القومية وناشد بالوحدة ثم أخذها عند النشوةِ على طرقٍ هو بين نانسية عجرم إذ هي نص ونص .. وشعبانية عبدالرحيم حينما يكره اسرائيل ويحب في ذات اللحظة من يُصافح ويداهن إسرائيل ؟

سألته " من باب الاستزادة والتوضيح " عن سِر هذا التطور المادي الهائل . لقد فاجئني حين قال بأن الامر سهلٌ جداً وسريعٌ أيضاً لدرجة أنه أهون من عملية التمييز بين الطماطة الرديئة من الأُخرى الجيدة التي هي بين يديّ . ومع استماتتي في الايضاح أكثر , نظر إلى ساعته ثم قال " رافقني إن لم تكن مشغولاً وسأُبين لك الامر لاحقاً , وليس فقط كذلك .. بل سأنتشلك مِن ما أنت فيه أيضاً "

دخلنا مكاناً عبارة عن غرفة كبيرة بها مجموعة من الناس , الكل فيها كانوا يضحكون ويتمازحون وكأنهم قد رموا الدنيا بهمومها خلفهم , لا يُشغلهم من أمرها شيء ولا يهمهم خارج هذا المكان أي شيء . لكن صاحبي قاطع تفكيري وقال " في الحقيقة .. هم قد جلبوا دنياهم الى هذا المكان "

أمرني أن أجلس , ولما جلست سألني إن كُنت أُريد أن أشرب شيئاً , لكنني رفضت بأدب ثم ابتسم ابتسامةً خفية , وطلب لي قهوة . لقد تعجبت من هؤلاء الناس المختلفة ألوانهم وأشكالهم , حيث فيهم الغني المُفرط في غناه كما يدل مظهره , وفيهم أيضاً من هو على باب الأرزاق مثل حالتي .. تقدمت بالكرسي لأكون قريباً من صاحبي حتى اسأله دونما يسمعنا أحد ..

لكنه في الحقيقة كان مشغولاً كغيره , بل لقد فقدت اهتمامه بي وكأنني لم آتي معه إلى هذا المكان , لكنه كان يلتفت إلي بين فترةٍ وأُخرى وقد اتسمت عليه نشوة الفرح والسرور .. ثم يقول.. عليك أن تلعبها صح !!

" فاصل " يقال والحديث هنا بعيدٌ عن هذين الرجلين " فايز وسعد " , بأن الحياة لعبة ومخاطرة , ولكي تُبدع وترتقي أعلى السلالم وأن تكون في موضعٍ محترم , فعليك أن تعرف كيف تلعبها وكيف تكون الرابح فيها دوماً , دونما تردد وخوف من المخاطرة , لأن في الخوف وكثرة التردد تتولد الموانع التي تصد الإنسان عن فهم سياسة هذه الحياة " .. انتهى !

خرجنا من ذلك المكان وكأنني لم أستسغ هذا الأمر , ربما لأنني حينها قد ألفت حياة البساطة والمردود الواحد الغير قابل للتطوير لكنه مضمون وغير قابلٍ لأن أُقامر به .. لكنه قال لي " أتعلم بكم لعبت هذا اليوم ؟ وهل تعلم بما كسِبته ؟ " قلت وعلى مضض وشعور بأنني غير راغبٍ بسماع شيءٍ منه بعد أن أضاع وقتي .. كم ربحت ؟!

قال " قد أدخلت مائتي ألف ريال وخرجت بربحٍ صافي مقداره ... ثلاثمائة ألف ريال !!!

فقلت وأنا مشدوه ومتعجب أيضاً وكذلك إن أردتم قليلاً من الإستغراب , ثم أضيفي عليه قليلاً من الملح وضعي القدر فوق النار .. آه عفواً .. لنعد إلى الموضوع ..

ثم قلت معقولة !! ثلاثمائة ألف ريال !!!

فكُنت وابتداءً من اليوم الذي بعده , أسبقه إلى ذلك المكان , ولا يأتي إلا وأنا قبله . لقد بدأت بعدها في التكيف مع هذه اللعبة , وإن كُنت أخسر فيها أموالا كبيرة .. إلا أنني أُوفق سريعاً في إعادتها .. حتى أصبحت ذو باعٍ وذراع في هذه المقامرة وذو شأنٍ وخبرة .. بل وصل الأمر إلى إلهامٌ يأتيني فكان يأمرني فأُجيبه .. فأربح . فكان الآخرون يتقربون لي ويتوددون منكسرين أمامي علهم يجدوا في ذلك سبيلاً لإرضائي وإسعادي ..

لكنني ومع الوقت كُنت قد أُصبت بالبخل , فلا يقع في يدي مالاً إلا وآخذه لكي أقامر به فأكسب منه أو أخسره , ظناً مني بأن هذا المال ما خُلق إلا لكي يُلعب به , بل ويأتيني الإلهام نفسه ليقول لي " إلعب به لتكسب مثله فتكون قد احتفظت به وفي نفس الوقت صرفته في باب " ضرورات الحياة " , بل وازددت إهمالا لبيتي وزوجتي وأبنائي , فلا أجد وقتاً للنظر إلى أحوالهم أو إلى طلباتهم .. ظناً مني بأن المال سيسعدهم لاحقاً وسيُنسيهم يوماً ما !!

كُنت أشعر بأن هناك ما ينقصني .. كُنت أعلم بأنني قد ابتعدت عن نفسي .. كُنت أحس بأن حياتي ليست متزنة بل ومهزوزة .. كُنت أعلم بكل ذلك لكن الطمع والجشع وإدمان اللعب والمقامرة كان ينسيني كل ذلك ..

إلى أن أتى اليوم الذي احمرت فيه الدنيا بوجهي واغبرت .. حتى كُدت أن أختنق .. خرجت من هذه البيئة لا أكاد أملك من المال إلا القليل الذي في جيبي .. ضاع كل شيء .. فقدت كل ما جمعته أو ربحته .. كل شيءٍ ضاع بلمحةٍ من البصر .. ضاعت الأماني والأحلام .. ضاعت التخيلات بقصرٍ منيف وسيارة فارهة وزوجةٍ جديدة لحياةٍ جديدة .. ومدارس خاصة لأبنائي .. وسفر ورحلات وكل شيء !!


أهي الحياة كذلك .. لعبة نستطيع أن نتعلمها كما قال لي صاحبي سعد قبل أن ينتشلني من حفرة إلى حفرة أعمق .. أم أننا لعبة وهي التي تُديرنا فلا نجد من ينتشلنا ؟!



قصة كل مواطن قد غُرر به في سوق الاسهم , إذ كان رأسه يانعاً فأتى وقت قطافه .. فكان ذلك !