المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يتبع الاسلام وحريه الفكر



تركي
21-01-2002, 19:41
- شواهد حرية الفكر من سنة الرسول وعمله

السنة هي العمل، والسيرة، والطريقة وما يلتزم من قواعد ومن هنا فهي عملية أكثر ما هي قولية. وسنعرض هنا للسنة العملية ثم نتبعها بما نقل عن الرسول من أحاديث يتخذها البعض الدليل المعتمد على عقوبة الردة.
عندما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة كان بها جالية قوية من اليهود، وحاول الرسول اجتذابهم وتفادى شرهم، ليس فحسب بتركهم أحرارا وإنما أيضا باعتبارهم داخل أسرة (أمة المدينة) كما يتضح ذلك من(صحيفة الموادعة) ولكن اليهود ساءهم أن يظهر رسول ناجح من غير بني إسرائيل وأخذوا في الكيد له بمختلف الطرق.
كما كان في المدينة- عند مقدم الرسول شيوخ قبائل وسراة لهم منزلة خاصة بحكم نسبهم وثروتهم وعراقتهم، ولم يرحب بعض هؤلاء بالدين الجديد الذي غير الأوضاع التي كانت تحقق لهم السيادة، وجعل الناس سواسية وكان كبير هؤلاء عبد الله بن أبى سيد الخزرج الذي كانوا ينظمون الخرز في تاج له ليكون ملكا أو رئيسا، فلما جاء الإسلام آلت الرأسة إلى الرسول وإلى المؤمنين.
وتكون من هؤلاء ومن اليهود حلف جعل همه الكيد للرسول وقامة العراقيل في وجه الدعوة الجديدة والتآمر عليها. وقد وصل الأمر بعبد الله بن أبي ان انخذل بثلث الجيش عندما قرر الرسول الخروج في غزوة أحد، فلم يخرج وبقى بالمدينة. وكان من أساليبهم ادعاء الايمان ثم الكفر بعد ذلك لزعزعة ايمان المسلمين واشاعة الشائعات ونشر الأكاذيب، وهؤلاء هم المنافقون الذين كشف الله سترهم، وأعلن خبيئة نفوسهم في عدد من الآيات بل وانزل سورة خاصة بهم هي سورة المنافقين.
فماذا فعل الرسول بهؤلاء الذين قال فيهم القرآن انهم (آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا) وقال (ولقد قالوا كلم الكفر، وكفروا بعد ايمانهم) وقال (لا تعتذروا، قد كفرتم بعد ايمانكم)... وهي آيات صادعة بردة هؤلاء وكفرهم بعد اسلامهم...
لقد أحسن الرسول إليهم، وتغاضى عنهم وعندما عرض ابن عبد الله بن أبي وقد كان من خيره المؤمنين ان يأتي الرسول برأس أبيه حتى لا يقتله أحد المسلمين فيجد في نفسه غضاضة قال الرسول (بل نحسن صحبته).
* * *

وجاء في رسالة (السلفية المعاصرة إلى أين؟) و(من هم أهل السنة) لفضيلة الشيخ محمد زكى إبراهيم رائد العشيرة المحمدية، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، عرضا لبعض نماذج الذين ارتدوا لى عهد الرسول فلم يقم عليهم حدا، ولم يطلب لهم استتابة ومن هؤلاء:
-ارتد في حياته بعض المسلمين أفرادا أو جماعات، وبعضهم كان ارتداده مرات لا مرة واحدة فما قتل أحدا منهم.
-ارتد رجل آخر عن الإسلام بعد أن كان من كتاب الوحي للرسول، ولم يتورع - مع ارتداده أن يقول الكلمة المنكرة التي رواها البخاري وغيره (ما يدري محمد الا ما كتبت له).
وعلى الرغم من ذلك كله تركه رسول الحرية حرا طليقا وقبل فيه الشفاعة حتى مات على فراشه (انظر هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري).
-وارتد اثنا عشر مسلما عن الإسلام على هد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا من المدينة إلى مكة ومنهم الحارث بن سويد الأنصاري، فما أهدر الرسول دم أحد منهم، ولا حكم بقتل مرتد منهم واكتفى القرآن بقوله عنهم (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين).
-وارتد عبيد الله بن جحش بعد اسلامه وهجرته إلى الحبشة واعتنق النصرانية هناك فما أهدر النبي (ص) دمه، ولا طلب من النجاشي تسليمه إليه ولا أوعز إلى أحد بقتله.
-واعتنق النصرانية كذلك ولدان شابان فشكاهما أبوهما إلى الرسول قائلا (يا رسول الله ادع ولداي يدخلون النار) فلم يق له الرسول مثلا اقتلهما أو دعني اقتلهما وانما اسمعه الآية القرآنية (لا اكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغى)1.
فهذه الحالات المتعددة المترادفة تثبت أن الرسول لم يعرف حدا للردة، ولم يأمر به، ولم يطبقه.

* * *

اذن ما بال الأحاديث التي يأخد فيها ويعيد الفقهاء عندما قرروا عقوبة للردة.
لقد فصلنا في كتابنا (كلا ثم كلا...كلا لفقهاء التقليد وكلا لأدعياء التنوير) الصفحات من71 إلى 78 هذه الأحاديث المزعومة فقلنا..

* * *

(ويعجب الإنسان عندما يرى أن قضية الردة لا تستند في السنة لى ما يتناسب مع وزنها، سواء جاء هذا الوزن من طبيعتها -أي الردة عن الإسلام- أو من عقوبتها وهي القتل.. إذا لا يجد المرء سوء ثلاثة أحاديث، أو أربعة يدور عليها النقاش هي:
أولا- حديث العرنيين: الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام ولكنهم استوخموا الأرض فشكوا ذلك إلى رسول الله (ص) فقال أفلا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من ألبانها وأبوالها.. قالوا بلى... فخرجوا، فشربوا، من ألبانها وأبوالها فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا، النعم، فأرسل رسول الله (ص) في أثرهم من قبض عليهم وقتلهم.
الحديث رواه البخاري ومسلم وبقية كتب الحديث وليس فيه ما ينم عن حد الردة، بل ليس في أغلب الروايات ما يشير صراحة إلى ردتهم، ومعروف أن القتل عقوبته القتل، فضلا عن عقوقهم واستياقهم الإبل، فلو لم يرتدوا لاستحقوا القتل... وقد أورد مسلم الحديث في \"باب المحاربين والمرتدين\"، وأورده الشوكاني في باب \"المحاربين وقطاع الطرق\".
فلا يمكن أن يستند إليه في أن القتل عقوبة الردة... وهو ما دفع ابن تيمية للقول \"هؤلاء قتلوا - مع الردة وأخذوا الأموال فصاروا قطاع طرق محاربين الله ورسوله\". وتابعه ابن القيم في اد المعاد والطبري في تفسيره\".
ثانيا - الحديث الثاني: هو الذي قرر فيه الرسول (ص) أنه لا يجوز قتل مسلم إلا في حالة من ثلاث: قتل نفس، وزنا بعد إحصان، والمارق عن الدين المفارق للجماعة... وهناك روايات عديدة للحديث تقرن معظمها - كروايات عبد الله ابن مسعود - الردة بمفارقة الجماعة، بل إن رواية عائشة: \"لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم، ورجل قتل مسلما متعمدا، ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله عز وجل ورسوله فيقتل\"2 .
ورأى ابن تيمية أن رواية عائشة تفسر ما جاء في حديث ابن مسعود وغيه عن المارق عن الدين، المفارقة للجماعة. وأن \"فراق الجماعة إنما يكون بالمحاربة\".
وانتقد كاتب معاصر هذا الرأي لابن تيميه، ورأى أنه: \"رأي فردي لم يتابعه عليه أحد\"3 وأن ابن تيميه اجتهد في تأويل الحديث فجانبه الصواب من جهتين: إحداهما أن صياغة الحديث نفسه واضحة لا تحتاج إلى تأويل، لأن مثل هذا النص غني عن التأويل، وعلماء الأمة متفقون على أن النص الواضح الذي لا يمنع من العمل بظاهره مانع شرعي أو عقلي يجب بقاؤه على ظاهره ولا يجوز صرفه عن ظاهره أبدا\".
وقد قلنا إن ظاهر\"المفارق للجماعة\" يفح مجال الاحتمال، فليس هناك افتيات أو حذف للظاهر. وما جاز فيه الاحتمال بطل به الاستدلال...
ويستطرد الكاتب
\"والجهة الثانية التي جانب ابن تيميه فيها الصواب أن علماء الأمة من قبله ومن بعده يوردون حديث ابن مسعود: \"التارك لدينه، المفارق للجماعة\" دليلا ثانيا بعد حديث: \"من بدل دينه فاقتلوه\" على وجوب قتل المرتد عن الإسلام إذا لم يتب... وحاشى الله أن يكون الفقهاء قد اجتمعوا على ضلالة أو باطل... الخ\".
وقد كان يستطيع أن يقول إن كتب الأحاديث تضمنت روايات يقتصر فيها الحديث على الردة دون الشارة إلى مفارقة الجماعة، فقد جاء في سنن النسائي روايتان لحديث عن عثمان بن عفان لا يتضمنان المفارقة اقتصر فيهما الحديث على من \"ارتد بعد إسلامه\" في رواية ابن عمر بن عثمان أو \"يكفر بعد إسلامه فيقتل\" في رواية يسر بن سعيد عن عثمان وتضمن مسند الإمام أحمد رواية عن عائشة بدون ذكر مفارقة أو محاربة، ولكن الموقف لا يتغير مع هذه الأحاديث بعد ورود أحاديث ابن مسعود وعائشة وغيرهما التي تضمنت المفارقة والمحاربة.. مما يحسن معه التوقف لاحتمال أن يكون رواة حديث عثمان وعائشة عند الإمام أحمد لم يرووا الحديث بالكام، أو من الأخذ بالأحوط في مثل هذا الحد الجسيم، وهو المسلك الذي يتفق مع روح الشريعة.
ثالثا - الحديث الثالث، والذي يعتبرونه أقوى ما في الباب هو ما جاء ينص: \"من بدل دينه فاقتلوه\".
والحديث في البخاري وأبو داود في سننه ومالك في الموطأ والنسائي في السنن.
قال صاحب نصب الراية: قلت روى من حديث ابن عباس، ومن حديث معاوية بن حيدة ومن حديث عائشة.
أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري في كتاب الجهاد في استتابة المرتدين عن عكرمة أن عليا أُتي بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنى رسول الله(ص): لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقوله عليه السلام: \"من بدل دينه فاقتلوه\" ووهم الحاكم في المستدرك فرواه في كتاب الفضائل وقال على شرط البخاري ولم يخرجاه، رواه بن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما بدون القصة.. حدثنا ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله(ص): \"من بدل دينه فاقتلوه\" انتهى.
وأما حديث معاوية بن حيدة فأخرجه الطبراني في معجمه الكبير عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة.. قال قال رسول الله (ص): \"من بدل دينه فاقتلوه... إن الله لا يقبل توبة عد كفر بعد إسلامه\".
وأما حديث عائشة فأخرجه الطبراني في معجمه الوسيط عن أبي بكر الهذلي عن الحسن وشهر بن حوشب عن عائشة مرفوعا نحوه سواء4.
ولنا عن هذا الحديث كلام بالنسبة للسند والمتن معا...
أما السند، فإن الروايات المتكررة له تنتهي إلى عكرمة عن ابن عباس، فقد استعبده مسلم ولم يخرج له إلا حديثا واحدا في الحج مقرونا بسعيد بن جبير، وإنما تركه لطعن طائفة من العلماء فيه بأنه \"كذاب وبأنه كان يرى رأي الخوارج وبأنه كان يقبل جوائز الأمراء\" كما قال مؤلف \"الحديث والمحدثون\" الشيخ محمد أبو زهو وو من أكثر الفقهاء ورعا... وقد خصص الذهبي في ترجمته في ميزان الاعتدال قرابة صفحتين كبيرتين أورد فيهما مختلف الآراء فيه ما بين أنه بحر من البحور، وأنه كذاب لا يحتج بحديثه.
والرواية الثانية عن بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة وقد وثق بهز جماعة بينما اختلف فيه آخرون وتوقفوا في الاحتجاج به \"ميزان الاعتدال ج 1 ص 165\".
كما أن راوي الرواية الثالثة شهر بن حوشب وإن كان من الرواة المشهورين فقد اختلف فيه وقال بعضهم لا يحتج به أو تركوه.
مع أن المحدثين عادة لا يردون أحاديث لمثل ما أوردناه من شبهات أو أقايل عن الرواة، وأنهم لا يرون أن ما قيل فيهم يوقف الاحتجاج بهم، فقد يجوز لنا أن نتوقف إذا كان الأمر يتعلق بالقتل.. وأي حرج في أن نقف مثل موقف الإمام مسلم من عكرمة؟؟
أما المتن: هناك أيضا شيء يحيك في النفس بالنسبة للمتن، فقد جاء الحديث - رواية عكرمة في سياق في سياق حكاية أوردناها آنفا.. فكلمة \"زنادقة\" التي لو استقصينا تاريخها لاظهر هذا التقصي أنها لم تشتهر في أيام الخلافة الراشدة... كذلك تحريق علي كرم الله وجهه لهم مع نهي الرسول واستعباد أن يجهل علي ما علمه بن عباس، ثم ورود التعبير على إطلاقه مما يسح بانطباقه على من يبدل دينه إلى الإسلام، أو من يبدله من مسيحية إلى يهودية، أو من يهودية إلى مسيحية (وهو ما ذهب إليه بعض الأئمة) وهو يناقض ما قرره الرسول: \"من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها\"5 وفي الحديث رواية معاوية بن حيدة \"إن الله لا يقبل توبة عبد كفر بعد إسلامه\" وهو يخالف العديد من الآيات، بل إنه يخالف أحاديث جاءت عن ردة البعض ثم ندموا فأرسلوا من يسأل عن توبة لهم... فنزلت سورة آل عمران [كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم بالبينات والله لا يهدي القو الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم] (89).. آل عمران.
فرجعوا إلى الإسلام وحسن إسلامهم، وهذا هو ما يتفق مع روح الإسلام ورشد التشريع ولم يذكروا أن الرسول طلبهم ليقتلهم أو يستتيبهم، كما كان يفترض لو كان هناك حد مقرر للردة.
ولو أخذ بنص رواية ابن حيدة، لما كان للفقهاء أن يقرروا الاستتابة التي هي في شبه إجماع بينهم.
رابعا - واستدلوا أيضا بما وقع في حديث معاذ \"أن النبي (ص) لما أرسله إلى اليمن قال له: أيمارجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها\".
وجاء في فتح الباري: قال الحافظ وسنده حسن، وهو نص في موضوع النزاع فيجب المصير إليه ... وجاء الحديث في نصب الراية في صيغة مختلفة: \"أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن تاب فاقبل منه وإن لم يتب فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن تابت فاقبل منها وإن أبت فاستتبها\". وأورده مصنفو جامع الأحاديث للجامع الصغير وزوائده والجامع الكبير للإمام السيوطي (حديث رقم 9562 ص 413 ج 3 )... علقوا في الهامش (وردت \"فاسبها\" في مراجع أخرى).
ومن هنا يتضح أنه لا يمكن \"المصير إليه\" كما ذهب الحافظ، فضلا عما شاب سنده، إذ هو من رواية محمد بن عبد الله العرزمي وهو(متروك من السادسة) كما قال صاحب تقريب التهذيب (ص 330).
وقد استعرض صاحب نصب الراية الأحاديث التي جاء فيها إشارة إلى قتل المرتدة، والأحاديث المعارضة، إذ اكتنف التجريح رواة الأحاديث الأولى، خاصة ما جاء فيها عن النبي (ص) قتل امرأة لردتها (نصب الراية 456 ج 3) وهو أيضا ما فعله الشوكاني في نيل الأوطار (ج 7).
ويخالف الحكم بالقتلالأثر الذي جاء عن عمر بن الخطاب وأورده صاحب نصب الراية والشوكاني في نيل الأوطار عن الشافعي... \"أن عمر قال لوفد قدموا عليه من بني ثور: هل من مغربة (بكسر الراء وفتحها) خبر قالوا: نعم أخذنا رجلا من العرب كفر بعد إسلامع فقدمناه فضربنا عنقه، قال: هلا أدخلتموه جوف بيت فآلقيتم عليه كل يوم رغيفا أيام واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله اللهم إني لم أشهد، ولم آمر ولم أرض إذ بلغني\".
وفي رواية أوردها الشوكاني، ورواه البهقي من حديث أنس قال لما نزلنا على تستر فذكر الحديث وفيه \"فقدمت على عمر رضي الله عن فقال: يا أنس ما فعل الستة رهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين. قلت: يا أمير المؤمنين قتلوا بالمعركة، فاسترجع ثم قلت: وهل كان سبيلهم إلا القتل، قال نعم كنت أعرض عليهم الإسلام.. فإن أبوا أودعتهم السجن\" 7/170. فهذا نص يجعل السجن لا القتل... وليس هناك ما هو أشد من استنكار عمر: \"اللهم إني لم أشهد ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني\".
* * *
وقد يذكر هنا توعد عمر بن الخطاب جبلة بن الأيهم القتل إن ارتد. وجبلة بن الأيهم هو آخر الملوك العرب الغساسنة الذين تحالفوا مع الروم وقد اشترك مهم ضد المسلمين في معركة اليرموك الفاصلة. فلما انهزم الروم أعلن جبلة بن الأيهم إسلامه وزار المدينة. وخلال طوافه بالبيت وطئ أحد الأعراب إزاره فلطمه لطمة أصابت عينه. فاشتكى العربي إلى عمر بن الخطاب الذي أحضر جبلة وأمره باسترضاء الأعرابي أو القصاص فقال له: \"تقص مني وأنا ملك وهو سوقه\" فقال له: إن الإسلام سوى بينكما... فطلب مهلة للتفكير انسل خلالها عائدا إلى الروم وارتد وعاد إلى النصرانية.
ومن الواضح أن حالة جبلة خاصة من ناحيتين: أولا أنه قائد عسكري قاتل المسلمين إذا قبل أن يعلن إسلامه بعد الهزيمة. ويلب أن يقاتل المسلمين إذا ارتد خاصة والحرب سجال ورحاها دائرة فهذا عنصر بعيد عن الردة بمعنى حرية الفكر.. والثانية أنه رفض تطبيق قانون الدولة الذي يوجب المساواة. وهذا أيضا عنصر جديد بعيد أيضا عن الردة بمعناها المجرد. ولو كان جبلة بن الأيهم رجلا عاديا لنقذ فيه القصاص فورا، أو لسجنه - إذا ارتد - كما رأى ذلك في الحالة السابقة. ولكن جبلة بن الأيهم كان قائدا عسكريا تمرد على تنفيذ قوانين الدولة وهذه كلها عناصر تجعل القضية لا تنطوي تحت قضية الردة المجردة وعمر بن الخطاب هو صاحب الصيحة \"اللهم إني لم أشهد، ولم آمر لم أرض إذ بلغني\".
وأهم من هذا كله ان رسول الله (ص) لم يقتل أحدا لا رجلا ولا امرأة للردة وحدها. وقد رفض أن يجيب أحد الأعراب عندما قال له: \"يا محمد أقلني من بيعتي\" ولكنه لم يلحق به أذى. ولا نعرف ملابسات الموضوع. وقد انتقد مؤلف \"عقوبة الارتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين\" الذين ذهبوا إلى أن النبي (ص) لم يقتل أحدا بتهمة الردة وعاب عليهم عدم الرجوع إلى المصادر الوثيقة إلخ.... ثم قال: \"وفي عام الفتح أمر (ص) بقتل ابن خطل وكان مسلما ثم ارتد ورجع إلى مكة.. ولما علم بقدوم موكب لفتح بقيادة صاحب الدعوة هرع إلى المسجد الحرام وتعلق بأستار الكعبة ورغم هذه الحيلة أمر النبي بقتله فقتل حدا للارتداد بالدين\"...6
فما هي قصة ابن خطل؟
قال ابن اسحاق \"وعبد الله بن خطل رجل من بنى قسم بن غالب وإنما أمر بقتله أنه كان مسلما فبعثه رسول الله (ص) مصدقا.. (أي جامعا للصدقات وهي الزكاة) وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى له يخدمه..و كان مسلما فنزل منزلا، وأمر المولى أن يذبح تيسا له فيصنع له طعاما فنام فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكان له قينتان تتغنيان بهجاء لرسول\".
فهذا التقصي التاريخي يوضح أن للرجل ماضيا جنائيا يستحق عليه القتل خلاف الردة.
وذكر مؤلف \"عقوبة الارتداد\" في مكان آخر من كتابه عن امرأة ارتدت يقال لها أم مروان، أن الرسول أمر أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت \"وأحال في الهامش على مرجعة نيل الأوطار\" للشوكاني 7 / 217 وكان من الأمانة أن يذكر ما أورده الحافظ عن ضعف إسناد الحديث. وقد أورد الحديث الزيلعى في نصب الراية عن معمر بن بكار السعدي ثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن محمد بن المنكدر عن جابر، وقال ومعمر بن كبار في حديثه وم، وألحقه بحديث عن الدارقطنى أيضا عن محمد بن عبد الملك الأنصاري عن الزهري عن عائشة، وقال: ومحمد بن عبد الملك هذا قال أحمد وغيره يضع الحديث وأورد الزيلعى حديث الدارقطنى رواية عبد اله بن أذينة عن هشام بن الغاز عن محمد بن المكندر عن جابر بن عبد الله قال: ارتدت امرأة عن الإسلام فأمر رسول الله (ص) أن يعرضوا عليها الإسلام فإن أسلمت والا قتلت فعرض عليها فأبت أن تسلم فقتلت. وقال: \"وعبد اله بن أذينة جرحه ابن حبان وقال لايجوز الاحتجاج به بحال، وقال الدارقطني في المؤتلف والمختلف متروك، ورواه ابن عدى في الكامل وقا عبد الله بن عطارد بن أذينة منكر الحديث ولم أر للمتقدمين فيه كلاما\" (458 نصب الراية ج 3).
وقد فصل ابن تيميه في هذه القضية اذ ذكر أن النبي (ص) قبل توبة جماعة من المرتدين، وأمر بقتل جماعة آخرين ضموا إلى الردة أمورا أخرى تتضمن الأذى والضرر للإسلام والمسلمين، مثل أمره بقتل قيس بن حبابة يوم الفتح لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال، ولم يتب قبل القدرة عليه، وأمر بقتل العرنيين لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك، وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم - وأمر بقتل بن أبي السرح لما ضم إلى رده الطعن عليه والافتراء. وفرق ابن تيميه بين النوعين أن الردة المجردة تقبل فيها التوبة، والردة التي فيها محاربة لله ورسوله والسعي في الأرض فسادا لاتقبل فيها التوبة بعد القدرة.
فإذا أصر بعض الناس على صحة وقوة حديث \"من بدل دينه فأقتلوه\" فيصار إلى أنه للجواز وليس للوجوب، وما يصرفه عن الوجوب هو ماسبق من الشواهد التي تثبت أن الرسول لم يقتل مرتدا لمجرد أنه \"بدل دينه\" ولكنه جمع إلى ذلك أفعالا من المحاربة التي تستحق القتل، وما جاء من آثار عن عمر في ذلك أيضا وأشرنا إليه. وعندئذ تحكمه ضوابط الجواز. ودأ الحدود بالشبهات.
وهكذا يتضح من استعرض الأحاديث السابقة أن الردة كانت تقترن بمحاربة الإسلام والانضمام إلى أعدائه.. وأن هذا الجزء الأخير هو الذي أوجب قتالهم كمحاربين أو قتلهم عند القبض عليهم، وقد كان هذا الجزاء هو ما تطلبته ظروف الدعوة الناشئة وهو على كل حال العقوبة المقررة في كل الشرائع الآن.

الهوامش:
1 ص24 - 25 الطبعة الأولى 1408 هـ 1987 م ـ القاهرة
2 وكأنها تأولت آية الحرابة \"إنما الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أ ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم\" المائدة 33.
3 عقوبة الارتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين، تأليف د/ عبد العظيم إبراهيم المطعنى. ص 39 (مكتبة وهبة).
4 نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي الجزء الثالث ص 456.
5 رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملوك حمير- انظر سيرة ابن هشام ص236 ج4 .
6 المرجع السابق ص 58
الاسبوع القادم: الفصل الثالث: قضية الردة ايام ابي بكر
عن الطبعة المغربية لمؤلف الاستاذ جمال البنا: حرية الفكر والاعتقاد في الاسلام. ارباط 1998.

قضية الردة أيام أبي بكر

يُورد الفقهاء كدليل لا يدحض على مشروعية محاربة المرتدين، محاربة أبي بكر رضي الله عنه للمرتدين في مستهل خلافته، وما من قضية أسيء فهمها كهذه.

فأولا لم يكن أبو بكر هو البادي بالحرب، وكان ما قام به هو رد القبائل التي ما ان سمعت بوفاة الرسول حتى ارادت أن تتحرر من امرين: الأول دفع الزكاة بحجة أنهم كانوا يدفعونها للرسول استجابة للآية \"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم وصل عليه ان صلاتك سكن لهم \" فقالوا لسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من كانت صلاته سكن لنا
والثاني أن يتحرروا من خلافة أبي بكر فإنما خضعوا للرسول بحكم صفته، أما أبو بكر فلا وقال شاعرهم:
اطعنا رسول الله إذ كان بيننا
فــيـالعباد الله ما لابي بكر
ايورثها بكراً إذا مات بعده
وتلك لعمرو الله قاصمة الظهر
فالقضية اذن لم تكن ردة عقيدة إذ كان منهم من يؤمن بالله والرسول، ويصلى ولكنهم رفضوا الزكاة ورفضوا خلافة أبي بكر، فهو تمرد على أخص مقومات الدولة، وأخذ هذا التمرد صورة عملية عندما تصوروا أن ليس بالمدينة من يحميها بعد أن أرسل أبو بكر الجيش مع أسامة إلى الشام تطبيقا لوصية الرسول، وكن أبا بكر كان عالما بنواياهم فأعد من كبار الصحابة مجموعات تحمى \"انقاب\" المدينة فلم يكد المتمردون يصلوا المدينة حتى صدتهم هذه المجموعات فارتدوا على أعقابهم، وبعد ذلك بمدة، وبعد أن رجع جيش أسامة أرسل أبو بكر سراياه لمعاقبة هذه القبائل واعادتها إلى حظيرة الدولة.
وعلى هذا فإن أبا بكر لم يحارب المرتدين، ولكنه حورب من المرتدين، ورد عليهم ولم تكن القضية قضية ايمان وكفر، ولكن قضية مال، وسلطان وكان هذا، واضحا كل الوضوح وقد حاربوا معاً في سبيل قضية مالية سياسية فالقبائل المرتدة حاربت لرفض الزكاة، وأبو بك حارب لأخذها وقد قالها صريحة \"والله لو منعوني عناقا (أو عقالا) كانوا يدفعونه لرسول الله لحاربتهم عليه\".
وقد استنكر عمر بن الخطاب - ولفيف من الصحابة أن يحارب أبو بكر هذه القبائل وهي مسلمة تقول \"لا اله إلا الله محمد رسول الله\" وكان مصيباً في هذا من ناحية الايمان، ولكن أبو بكر كشف وهو في موقع رجل الدولة ملحظا خفي على عمر هو رفضهم الزكاة وتمردهم على السلطة المركزية، وواحد من هذين يكفى لحربهم.
هذه هي الحقيقة في قضية الردة، ومنها يعلم مدى المغالطة التي يقع فيها من يستدل بها على صحة مقاومة - و عقوبة، من يرتد ردة فكرية دون أن يناصب الدولة العداء أو يرفض دفع الضرائب أو الالتزامات القانونية الأخرى.
وقد وسعت سماحة الإسلام حتى هؤلاء كما يتضح من موقف الخليفة الرابع - الإمام على كرم الله وجهه من الخوارج الذين انحازوا عنه بسلاحهم، ورموه بالكفر ونصبوا لهم أميراً غيرهم ومع هذا فلم يقاتلهم حتى قتلوا آمنا طالبهم بقاتله قالوا \"كلنا قتله\" وعندئذ فحسب قاتلهم\"1.
1 انظر تفاصيل ذلك في كتابنا خمسة معايير لمصداقية الحكم الإسلامي من ص 49 إلى 56
الفصل القادم: شواهد حرية الفكر من عمل ومواقف الصابة
عن الطبعة المغربية لكتاب الاستاذ جمال البنا: حرية الفكر والاعتقاد في الاسلام 1998


شواهد حرية الفكر من عمل ومواقف الصحابة

أدت التطورات السياسية المتلاحقة التي تعرض لها المجتمع الإسلامي اثر وفاة الرسول إلى ظهور تيارات لم تكن معهودة وقته، كان أبرزها \"الفتنة الكبرى\" التي نشبت بين علي كرم الله وجهه، ومعاوية بن أبي سفيان هذه الفتنة التي أسالت من دماء الصحابة والرعيل الأول من المسلمين أكثر مما أسالته حروب الفتح، ووصلت فيها المرارة ببعض الناس حدا كفَّروا فيه عليا، وعثمان ومعاوية كل الذين شايعوهم واستحلوا دماءهم وأموالهم وسبي نسائهم، وقال واصل بن عطاء أنه لايقبل شهادة علي أو معاوية أو من شايعهم واشترك في القتال - خاصة بعد - صفين - على باقة بقل - لأن أحد الفريقين اخطأ خطأ جسيما، ولكنه عجز عن أنه يعينه وهكذا رفض شهادة الجميع.
على أن هذا لم يكن أبدا موقف الصحابة المقرر والمتبع من الأغلبية العظمى للصحابة.
وجاء في رسالة السلفية المعاصرة إلى أين \"التي سبقت إليها الإشارة\" أمثلة لسماحة الصحابة ازاء الانحرافات في العقيدة التي تمس الله تعالى:
\" لم يكفر الصحابة \"القدرة\" الذين قالوا أن الله لم يقدر - ولا يقدر - على تقدير الهدى أو الضلال على أحد، بل قالوا أن الانسان يخلق عمل نفسه لنفسه بنفسه... هداية أو ضلالا.
ولم يكفر الصحابة الفرق التي زعمت منهم أن الله أجبر الخلق واكراههم على ما هم عليه، وأن الكفر والايمان والطاعة والمعصية في الناس كالبياض والسواد، والطول والقصر، في خلقة الآدمي، ما للمخلوق في ذلك صنع ولا يد.
بل إنه لما قتل إمامهم غسل وكفن وصلى عليه ودفن في مقابر المسلمين.
ولم يكفر التابعون أحدا من المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، وان مرتكب الكبيرة في نزلة بين المنزلتين فلا هو مسلم ولا هو كافر، بل هو خالد في النار، وان الله لايخلق ولايقدّر على العباد الذنب أو المعصية، بل العبد يخلقها ويقترفها، وان الله لم يتكلم، وان القرآن ليس بكلام الله، بل هو خلق مما خلق الله فليس لله كلام عندهم.
ولم يكفروا المرجئة الذين قالوا: ان الايمان قول بلا عمل، فمن اقر بالشهادتين فهو كامل الايمان وان لم يصل طول عمره ركعة واحدة، أو لم يقم بطاعة واحدة، بل هو عندهم في مقام جبريل، وفي منزلة الأنبياء والمرسلين سواء بسواء.
ولم يكفروا الجهمية الذين يقولون: ليس على العرش إله يبد، وليس لله في الأرض كتب لله ولا ألواح ولا كلام، وينكرون المعراج نهائيا، كما ينكرون صفات الله التي جاءت في القرآن، حتى قال فيهم ابن المبارك إنا لنحكي قول اليهود ولانحكي قول الجهمية، ومع هذا عندما قتل زعيمهم (الجهم بن صفوان) ووزيره (الجعد بن درهم) غسلوهم وكفنوهم وصلوا عليهم ودفنوهم في مقابر المسلمين ولم يجروا عليهم حكم الردة ولا الزندقة ولا الكفر أو الاشراك أو الوثنية، مع أن هؤلاء وسابقوهم هم أصول الفرق الاثنتين والسبعين التي جاءت في الحديث المشهور1. ان كان صحيحا.
وقد نقل ابن تيمية ان الامام أحمد بن حبل لم يكفر أهل هذه الفرق بل صلى (أحمد) رضي الله عنه خلف بعض الجهمية وبعض القدرية وأن أكبر ماتوصف به كل تلك الفرق عند ابن تيمية هو الفسق\" انتهى.
وحقق الشيخ محمد زكي إبراهيم مؤلف رسالة (السلفية المعاصرة .. إلى أين) الفرق العلمي بين الكفر العملي والاعتقادي فقال:
برغم ما حققناه في فصول رسالة أهل القبلة نحب أن نوجه عناية الاخوة القارئين الصالحين إلى أنه عندما يذكر الحديث النبوي لفظ (الكفر أو الشرك) كأثر لمعصية أو خطيئة فإنه لا يراد به أبدا الردة أو البراءة من دين الله، لا لا وألف مرة لا، ولكن يراد ب علميا وفقهيا وعقليا وجماعيا أن من عمل كذا أو قال كذا أو كذا فقد أشرك أو كفر، يعني قلد المشركين والكفرة في بعض أقوالهم أو بعض أعمالهم أي أنه عصى أو خالف أو تهاون أو تجاوز، ليس إلا، بحسب واقع الأمر، وهذا هو ما يسميه العلماء بالكفر أو الشرك العملي لا كفر الإيمان أو شرك العقائد والتوحيد. عياذا بالله.
يجب أن يكون هذا مفهوما عن يقين، ومعلوما مذاعا على الناس، وإلا فلم يبق على وجه الأرض الآن مسلم فإنه لا يكاد أن يبقى شيء لم يقلد فيه المسلمون غيرهم إلا العقائد والعبادات وبعض الأخلاق، فإن الطوفان الحضاري المعار لم يبق شيئا إلا خالطه، سواء كان حسيا أو معنويا، والتخلص من ذلك أمر مستحيل تماما على العالم والجاهل والسلفي والخلفى جميعا وقانا الله نكارة الجهل بالعمل أو حقارة العلم بالجهل القبيح.
وصدق الله العظيم اذ يقول \"والذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا واثما مبينا2\"
1 في هذا الحديث مقال يرجع إليه في كتابنا أصول الوصول فهو عند الجمهور ضعيف، وكانت أشد أيام هذه الفتن في عهذ المأمون والمعتصم والواثق من الدولة العباسية، وقد تفرع منها في مصر جماعة التكفير والهجرة، والناجون م النار، والتبين والتوقف...الخ هذه الارهاط المسماة بالجماعات الإسلامية.
2 ص 31 - 32
الفصل القادم: قضية الردة: صناعة فقهية
عن الطبعة المغربية لكتاب الاستاذ جمال البنا: حرية الفكر والاعتقاد في الاسلام 1998

قضية الردة: صناعة فقهية

اذا لم يكن في القرآن الكريم ما ينص على عقوبة دنيوية على الردة، واذا لم يكن في عمل الرسول أو قوله ما يتضمن مثل هذه العقوبة واذا جاءت مواقف معظم الصحابة بعيدة كل البعد عن تكفير مسلم أو الحكم بردته أو فرض عقوبة عليه. فمن أين جاءت تلك الأحاديث المستفيضة والمسبة عن حد الردة؟
لقد جاء بها الفقهاء عندما ارادوا أن يدونوا الفقه ويقننوا الأحكام، وكان ذلك في أواخر الدولة الأموية - وأوائل الدولة العباسية عندما احتدمت العداوات السياسية والخلافات المذهبية وهددت وحدة الأمة وكيانها، عندئذ وقف الفقهاء، موقف حماة القانون والنظام والسلطة وكأن المناخ أملى عليهم أن يبتروا من المجتمع كل خارج عليه، ووجدوا من الأحاديث والسوابق التي وضعت، أو رويت بطريقة مشوهة، أو اصطنع لها سند قوي ما يمكن معه أن يضفوا صفة شرعية على عملية البتر هذه، وتوصلوا بحكم الصناعة الفقهية إلى اضافتين: الألى ابداع صيغة \"من حجد معلوما من الدين بالضرورة\" بحيث تتسع للجميع، والثانية فكرة الاستتابة.
واعتبروا أن عقوبة الردة لا تدخل في باب الحدود بالمعنى الدقيق، ولكنها عقوبة فريدة، فمن توقع عليه لا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يصلي عليه ويصبح ماله فيئا للمسلمين.
قال صاحب الجوهرة

ومن لمعلوم ضرورة جـحـد من ديننا يقتل كفرا ليس حد
ومثل هذا من نفى ما أجمع أو اسـتباح كالزنا فلتسـتمع!

وواضح تماما أن هذه الصيغة اعتبارية بحتة ويمكن لأي فقيه أن يعتبر أمرا ما \"من المعلوم من الدين بالضرورة\" وأن من يجحده فهو كافر، حلال الدم.. إلخ. وقد اعتبرت المحكمة السودانية التي حكمت على محمود محمد طه بالردة، والموت، أن من أسباب ردته أنه جحد \"الحجاب\" وهو معلوم من الدين بالضرورة.
وجاء في أحد الكتب تحت عنوان \"الكلمات تكون كفراً\" و\"ولو قال إن الصلاة لا توافقني، أو قال دارى مثل السماء والطارق، أو قيل له هذا حكم الله فيقول لا أعرف حكم الله، أو يقول أنا أعلم الغيب، أو يقول الرجل لامرأته أحل الله أربعة نسوة فتقول له أنا لا أرض بهذا.. ولو قال ليت الزنا والقتل والغصب كان مباحا يكفر الخ....1 \".
وقد يعرض الفقهاء تصورهم للردة بتعبير آخر خلاف \"من جحد معلوما من الدين بالضرورة\" هو \"قول كفر أو اعتقاد كفر أو فعل كفر\" وهو ما لا يقل تعميما أو شمولا من صيغة \"من جحد معلوما من الدين بالضرورة\"... على أن الشيخ جاد الحق علي جاد الحق أصدر فتوى نشرت خلال شهر رمضان في جريدة الوفد (عدد 23/2/1993) تصور العلاقة بين الاعتقاد والعمل جاء فيها:

\"أجمع المسلمون على أن من أنكر ما ثبتت فرضيته كالصلاة أو الصوم، أو حرمته كالقتل والزنا بنص شرعي قطعي في ثبوته عن الله تعالى وفي دلالته على الحك وتناقله جميع المسلمين كان خارجا عن ربقة الإسلام لا تجري عليه أحكامه، ولا يعتبر من أهله.

قال ابن تيمية في مختصر فتاواه:
\"من جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة كالصلاة أو جحد تحريم المحرمات الظاهرة كالفواحش والظلم والخمر، والزنا والربا أو جحد حل بعض المباحات المتواترة كالخبز واللحم والنكاح فهو كافر\"، لما كان ذلك، وكان الشاب الذي أفطر في نهار رمضان عمدا من غير عذر شرعي، إذا كان جاحدا لفريضة الصوم، منكرا كان مرتدا عن الإسلام. أما إذا أفطر في شهر رمضان عمدا دون عذر شرعي معتقدا عدم جواز لك كان مسلما عاصيا فاسقا يستحق العقاب شرعا ولا يخرج بذلك عن ربقة الإسلام\"!!
ولاجدال أن هذا يمثل منزلقا خطيرا في التشريع اذ هو يعطي الفقهاء سلطة كبيرة، سلطة يصغر أمامها تحذير القرآن، \"ولاتقولون لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال.. وهذا حرام\"، لأن هذه السلطة لا تحكم على الأشياء ولكن على الأشخاص.. كما أن هذا التكييف \"مفتوح\" غير محدد، يمكن أن يدخل فيه من يشاء ما يشاء! وهو أمر يخالف قواعد التشريع التي تشترط التحديد وتميل للتقليل لا للتكثير.. وهي - أي هذه السلطة - تمثل خطرا ماحقا على حرية الفكر، ل يمكن القول إنه لا تكون هناك حرية فكر مع وجود مثل هذه السلطة.

* * *

الاضافة الثانية: الاستتابة... وهذه أيضا مما لا نجدها في كتابة أو سنة فعلى كثرة ما يحْثُ القرآن والرسول المؤمنين على التوبة، فإنه لا يمارس أبدا (الاستتابة) التي قررها الفقهاء.. ولعل الرسول لم يستتب أحدا إلا ما روي عن أنه قال لمن طبق عليه حد السرقة \"قل تبت إلى الله\" فلما قالها، قال له الرسول \"تاب الله عليك2\".
والاستتابة بالطريقة التي فصلها الفقهاء تفقد جوهرها، فما دام هناك ارهاب وسيف وراءها فيغلب أن لا تكون ابعة عن رضا، واقتناع وإيمان، ولكن تعوذا من القتل وتخلصا من العقوبة، فهي في الحقيقة ارهاب فكري واذلال نفسي.
وهاتان الاضافتان، فقهيتان قلبا وقالبا، معنى ومبنى، ولا نجد لهما ذكرا في قرآن أو سنة، بل إنهما يجافيان تماما روح الإسلام ويرفضهما كل من لديه \"حس\" إسلامي أصيل تكَّون في النفس ثمرة لقراءة القرآن ومطالعة السيرة، والشيء الوحيد الذي اقحمها في كتب الفقه هو \"فنية الحرفة الفقهية\" ورغبة الفقهاء أن يكون فقههم شاملا، كاملا، لايفلت صغيرة ولاكبيرة والوصول بما أرسوه من أصول ومبادئ إلى غايتها وان الأضاع أوقفتهم موقف حماة القانون والنظام وليس دعاة حرة الفكر والعقيدة.

خاتمة

من هذا العرض الذي عرضناه لقضية حرية الفكر والاعتقاد كما جاء بها القرآن وكما طبقها الرسول، وكما التزم بها معظم الصحابة يتضح أن نقطة التحول جاءت مع ظهور الفقهاء ووضعهم لأسس المذاهب وتقنينهم للأحكام، والظروف التي وجدوا أنفسهم فيها من ناحية، وشيوع وضع الأحاديث وتلفيق الاسناد، أو الرواية بالمعنى، أو الفهم المبتسر للأحاديث من ناحية أخرى، فضلا عن أن الوضع المقرر للفقهاء عامة - باعتبارهم رجال القانون - يضمهم في صف النظام واللطة، والحكم القائم، كل هذا جعل الفقهاء يبدعون صيغة \"من جحد معلوما من الدين بالضرورة\" ويحكمون عليه بالموت ان لم يتب.
ولما كانت الظروف السياسية الماضية وتطبيق أحاديث ركيكة المتن قوية السند وليس الأصول الموضوعية التي وضعها القرآن والرسول هي التي أملت على الفقهاء هذا الفقه ، فلا نرى داعيا على الاطلاق لنتمسك بأقوال الفقهاء وان الأصول التي وضعها القرآن والرسول أولى بالاتباع شكلا وموضوعا، لأنها هي التي تمثل الإسلام الموضوعي،المطلق
، الخالد وليس الإسلام الذي أملته الأوضاع والضرورات وكبلته في الأصفاد.
وإذا كانت الأوضاع القديمة قد أملت على الفقهاء موقفهم فإن الأوضاع الحديثة تملي علينا أن نعود إلى ما قرره الله والرسول لأنه هو ما يتفق مع مناخ الحرية في العصر الحديث وبهذا نجمع الحسنيين: الاتفاق مع الإسلام ومعايشة العصر.


1 كتاب مفيد العلوم ومبيد الهموم للشيخ جمال الدين أبي بكر الخوارزمي - ص 52 .
2 وقد جاء لها ذكر عند عمر بن الخطاب، ولكننا هنا نتحدث عن الله والرسول .

عن الطبعة المغربية لكتاب الاستاذ جمال البنا: حرية الفكر والاعتقاد في الاسلام 1998