الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَكَلَّمْنَا فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي مَضَتْ عَنْ عَيْنِ الْحَقِيقَةِ لِلْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ ذَكَرُوا -بِاسْتِقْرَاءِ الأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ- أَنَّهُ ثَمَّ وَسَائِلُ لِلْحُصُولِ عَلَى الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ، مِنْ أَهَمِّهَا: الإِيمَانُ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هُوَ سِرُّ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ لِرَبِّ الْعَبِيدِ؛ الَّذِي هُوَ أَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ وَأَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ! وَقُلْنَا: مِنَ الْوَسَائِلِ أَيْضًا: الاِعْتِصَامُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ الأَخْيَارِ، وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ الأَبْرَارِ، وَهُمَا الأَصْلاَنِ الْمُهِمَّانِ اللَّذَانِ لاَ عُدُولَ عَنْهُمَا، وَلاَ هَدْيَ إِلاَّ مِنْهُمَا.
وَفِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ نُكْمِلُ الْوَسَائِلَ لِلْحُصُولِ عَلَى حَيَاةٍ سَعِيدَةٍ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، فَنَقُولُ: وَمِنَ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَالتَّزَوُّدُ مِنَ النَّوَافِلِ؛ فَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى فَرَائِضِ اللهِ، وَالإِكْثَارُ مِنَ السُّنَنِ مِنْ أَسْبَابِ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ.
فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدَهُ أَسْعَدَهُ ؛ فَقِيَامُ اللَّيْلِ، وَالوِتْرُ، وَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاةُ الضُّحَى، وَوِرْدُ الْقُرْآنِ الثَّابِتُ، وَأَذْكَارُ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالنَّوْمِ، وَكَثْرَةُ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ مِمَّا يُرْضِي الرّبَّ سُبْحَانَهُ عَلَى عَبْدِهِ ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ].
وَمِنَ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ: تِلاَوَةُ كِتَابِ اللهِ بِتَعَقُّلٍ وَتَدَبُّرٍ؛ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ فِي جَلاَءِ الأَحْزَانِ وَذَهَابِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ؛ فَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ تُورِثُ الْعَبْدَ طُمَأْنِينَةَ الْقُلُوبِ، وَانْشِرَاحًا فِي الصُّدُورِ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
[يونس: 57].
وَكِتَابُ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ هِدَايَةٌ وَسَعَادَةٌ وَمَنْفَعَةٌ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَرَحْمَةٌ وَعَدْلٌ لِلْعَالَمِينَ، فَهُوَ جِمَاعُ الْخَيْرَاتِ، وَحُصُولُ الْبَرَكَاتِ، وَإِصْلاَحٌ لِلأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ الأَمْرُ بِتِلاَوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ؛ فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ» الْحَدِيثُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنَ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ : الْمُبَادَرَةُ إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ؛ فإِنَّ الْمَعْصِيَةَ ذُلٌّ وَطَرْدٌ، وَإِبْعَادٌ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَهَمٌّ وَغَمٌّ وَضِيقُ صَدْرٍ.
أَخِي الْحَبِيبُ: كَيْفَ تُرِيدُ مَخْرَجًا لَكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرْتَعُ فِي الْمَعَاصِي؟!
يَا عَجَبًا لَكَ! تَسْأَلُ اللهَ لِنَفْسِكَ حَاجَتَهَا، وَتَنْسَى جِنَايَتَهَا؟! أَلَمْ تَعْلَمْ -هَدَاكَ اللهُ تَعَالَى- أَنَّ الذُّنُوبَ بَابٌ عَظِيمٌ تَرِدُ مِنْهُ الْمَصَائِبُ عَلَى الْعَبْدِ.
فَكُلُّ مَا تُجَازَى بِهِ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ، وَتَشتُّتِهِ وَظُلْمَتِهِ وَغَمِّهِ وَهَمِّهِ؛ عُقُوبَاتٌ عَاجِلَةٌ، وَنَارٌ دُنْيَوِيَّةٌ، وَجَهَنَّمُ حَاضِرَةٌ بِسَبَبِ مَا اقْتَرَفْتَ مِنَ الْمَعَاصِي وَجَزَاءَ مَا اكْتَسَبْتَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، قَالَ -تَعَالَى-: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طـه: 124].
فَجَاهِدْ نَفْسَكَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّكَ، وَعَلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي، وَبَادِرْ بِالتَّوْبَةِ، وَسَتَرَى -بِإِذْنِ اللهِ- مَا يَشْرَحُ صَدْرَكَ، وَيُنِيرُ قَلْبَكَ، وَتَعِيشُ حَيَاةَ السُّعَدَاءِ، وَتَمُوتُ -بِإِذْنِ اللهِ- مَوْتَ الشُّهَدَاءِ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا سَعَادَةَ الْقَلْبِ، وَهُدُوءَ النَّفْسِ، وَسَكِينَةَ الرُّوحِ، وَانْشِرَاحَ الصَّدْرِ، اللَّهُمَّ يَسِّرْ أُمُورَنَا، وَفَرِّجْ هُمُومَنَا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ: الاتِّصَافُ بِخُلُقِ الإِحْسَانِ؛ إِحْسَانٌ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ: بِأَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّ اللهَ يَرَاكَ.
وَإِحْسَانٌ فِي حُقُوقِ الْخَلْقِ بِبَذْلِ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ، لأَيِّ مَخْلُوقٍ يَكُونُ، فَإِذَا طَافَ بِكَ طَائِفٌ مِنْ هَمٍّ، أَوْ أَلَمَّ بِكَ غَمٌّ، فَامْنَحْ غَيْرَكَ مَعْرُوفًا، وَأَسْدِ لَهُ جَمِيلاً؛ تَجِدِ السَّعَادَةَ وَالأُنْسَ وَالسُّرُورَ وَالرَّاحَةَ.
أَعْطِ مَحْرُومًا، انْصُرْ مَظْلُومًا، أَنْقِذْ مَكْرُوبًا، أَعِنْ مَنْكُوبًا، عُدْ مَرِيضًا، أَطْعِمْ جَائِعًا؛ تَجِدِ السُّرُورَ يَغْمُرُكَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ.
فَلِلإِحْسَانِ ثَمَرَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْمُحْسِنِ، مِنْ أَهَمِّهَا: كَسْبُ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وَالْمُحْسِنُ يَكُونُ فِي مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وَمَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ فَلاَ يَخَافُ ضِيقًا وَلاَ هَمًّا وَلاَ بَأْسًا وَلاَ رَهَقًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ وَلِلْمُحْسِنِ الْبُشْرَى مِنْ رَبِّهِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْمَرْتَبَةِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَاسْلُكُوا سُبُلَ الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ فِي دُنْيَاكُمْ لِتَسْعَدُوا فِي دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُمْ، وَتَفُوزُوا بِرِضَا رَبِّكُمْ وَمَوْلاَكُمْ. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].