الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَلاَمُنَا عَنْ عِبَادَةٍ عَظِيمَةٍ، وَرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَعَمُودِ الإِسْلاَمِ، وَقُرَّةِ عَيْنِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ إِنَّهَا الصَّلاَةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِإِقَامَتِهَا، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾
[البقرة : 43 ] ، وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ إِقَامَتَهَا صِفَةً لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ ، بَلْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ الصَّلاَةَ عَوْنًا لِلْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، فَقَالَ: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [ البقرة : 45 ]
وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِۚ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
[ البقرة : 153 ] ، وَهِيَ عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ [النساء: 103].
وَالصَّلاَةُ هِيَ أَوَّلُ عَمَلٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَالدُّخُولِ فِي دِينِ اللهِ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» [متفق عليه].
الصَّلاَةُ -عِبَادَ اللهِ– أَفْضَلُ الأَعْمَالِ وَأَطْيَبُهَا وَأَزْكَاهَا وَأَنْفَسُهَا وَأَحَبُّهَا إِلَى اللهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ»، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. [متفق عليه].
وَالصَّلاَةُ هِيَ مِيزَانُ إِيمَانِ الْعَبْدِ وَبُرْهَانُ صِدْقِهِ، كَمَا فِي الْمُسْنَدِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلاَ بُرْهَانٌ وَلاَ نَجَاةٌ».
وَالصَّلاَةُ أَوَّلُ الأَعْمَالِ الَّتِي يُسْأَلُ عَنْهَا الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ، فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ ؟ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ»
[صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ يَشْعُرُ فِيهَا بِالضِّيقِ أَحْيَانًا؛ فَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ وَجَدَهَا قُرَّةَ عَيْنِهِ، وَنَعِيمَ رُوحِهِ، وَجَنَّةَ قَلْبِهِ، وَمُسْتَرَاحَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَعَنَائِهَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ» [رواه النسائي، وحسنه الألباني].
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِبِلاَلٍ: «يَا بِلاَلُ! أَقِمِ الصَّلاَةَ، أَرِحْنَا بِهَا» [رواه أبو داود، وصححه الألباني].
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مُقِيمِي الصَّلاَةِ، وَمُنَّ عَلَيْنَا بِالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى يَا جَزِيلَ الْهِبَاتِ، اللَّهُمَّ عَظِّمْ قَدْرَ الصَّلاَةِ فِي قُلُوبِنَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكِ الرُّكَّعِ السُّجُودِ يَا رَبَّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أَوْرَدَ الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قِصَّةً وَسَاقَهَا بِإِسْنَادِهِ إِلَى الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ أُهْبَانَ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- «كَانَ اشْتَكَى رُكْبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا سَجَدَ جَعَلَ تَحْتَ رُكْبَتِهِ وِسَادَةً» وَذَلِكَ لِيَخِفَّ عَلَيْهِ الأَلَمُ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْكُمْ شِدَّةُ أَلَمِ الرُّكْبَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا أَضَاعَ الصَّلاَةَ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَ وِسَادَتَهُ هِيَ الَّتِي أَعَاقَتْهُ عَنِ الصَّلاَةِ، وَتَلَذَّذَ بِالنَّوْمِ عَلَيْهَا!
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَعَظِّمُوا أَمْرَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، وَحَافِظُوا عَلَيْهَا؛ فَقَدْ خَصَّهَا اللهُ تَعَالَى بِأَنِ افْتَرَضَهَا عَلَى الْعَبْدِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ؛ سَوَاءً كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَاشْتَرَطَ اللهُ لإِقَامَتِهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ عَلَى أَشْرَفِ أَحْوَالِهِ فِي كَمَالِ طَهَارَتِهِ، وَجَمَالِ زِينَتِهِ، وَاسْتِقْبَالِهِ لِبَيْتِ اللهِ جَلَّ فِي عُلاَهُ.
وَرَتَّبَ اللهُ أَجْرَهَا بِمَا عَقَلَ الْمُصَلِّي مِنْ صَلاَتِهِ فِيهَا؛ فَقَدْ يَنْصَرِفُ الْعَبْدُ مِنْهَا وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْ أَجْرِهَا شَيْءٌ؛ فَاحْرِصُوا عَلَى صَلاَتِكُمْ، وَقِفُوا مَعَهَا وَقْفَةَ تَأَمُّلٍ وَمُحَاسَبَةٍ؛ هَلْ فِعْلاً نَحْنُ مُحَافِظُونَ عَلَى عَمُودِ الدِّينِ الصَّلاَةِ، وَهَلْ نُصَلِّيهَا كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فِي خُشُوعٍ وَخُضُوعٍ وَإِقْبَالٍ وَإِنَابَةٍ فِي بُيُوتِ اللهِ.
فَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاَةِ؛ فَهِيَ حَيَاتُنَا وَنَجَاتُنَا وَسَعَادَتُنَا وَنُورُنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم.