الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: شَهْرٌ عَظِيمٌ عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ ، ‏وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ فِي سُنَّتِهِ ، قَالَ تَعَالَى : ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة – 36] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ » [ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ]
وَلِشَرَفِ هَذَا الشَّهْرِ وَفَضْلِهِ ؛ أَضَافَهُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى اللهِ وَعَظَّمَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيِثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ ».
وَعَنْ جُنْدُبَ بْنِ سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ».
[أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ»، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ].
وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَعَظُّمَهُ ‏فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛حَتَّى كَانَتْ تُسَمِّيهِ بِشَهْرِ اللهِ الأَصَمِّ مِنْ شِدَّةِ تَحْرِيمِهِ ‏ .
وَالصَّوْمُ ‏فِيِ هَذا الشَّهْرِ لَهُ مَزِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَفَضْلٌ عَظِيمٌ ، وَخُصُوصاً فِيِ يَوْمِ عَاشُورَا الَّذِي رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِيَامِهِ ؛ كَمَا رَوَىَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ».
، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ». [ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ]
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ».
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ نَجَّى اللهُ مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، فَبَعْدَ أَنْ َدَعَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِرْعَونَ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، فَاسْتَكْبَرَ وَأَبَى وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى.
ثُمَّ اسْتَطَالَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْأَذَى، فَخَرَجَ بِهِمْ مُوسَى يَسِيرُ بِأَمْرِ اللهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ وَجَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَادَرُوا بِلَادَهُ، فَاغْتَاظَ لِذَلِكَ، وَحَشَرَ جُمُوعَهُ وَأَجْنَادَهُ، فَخَرَجَ بِهِمْ يُرِيدُ مُوسَى وَقَوْمَهُ، لِيَسْتَأْصِلَهُمْ وَيُبِيدَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ عِنْدَ شُرُوقِ الشَّمْسِ: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: 61]؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ أَمَامَهُمْ وَفِرْعَوْنَ بِجُنُودِهِ وَرَاءَهُم؛ فَأَجَابَهُمْ مُوسَى إِجَابَةَ ذِي الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ: ﴿قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 62].
فَلَمَّا وَصَلُوا الْبَحْرَ وَهُوَ الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ أَمَرَ اللهُ نَبيَّهُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامِ -: ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ [الشعراء: 63]، فَضَرَبَهُ فَانْفَلَقَ فَكَانَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا بِعَدَدِ مَنْ مَعَهُ، فَصَارَ الْمَاءُ بَيْنَ الطُّرُقِ كَالْجِبَالِ، وَصَارَ الطَّرِيقُ يَبَسًا، فَسَلَكَهُ مُوسَى وَقَوْمُهُ لَا يَخَافُ دَرَكًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَلَا يَخْشَى غَرَقًا.
فَلَمَّا تَكَامَلَ مُوسَى وَقَوْمُهُ خَارِجِينَ، إِذَا بِفِرْعَوْنَ بِجُنُودِهِ قَدْ دَخَلُوا أَجْمَعِينَ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى الْبَحْرِ فَانْطَبَقَ فَصَارَتْ أَجْسَادُهُمْ لِلْغَرَقِ وَأَرْوَاحُهُمْ لِلنَّارِ وَالْحَرَقِ.
فَانْظُرُوا كَيْفَ نَصَرَ اللهُ مَنْ نَصَرَهُ وَاتَّبَعَ رِضْوَانَهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ النَّصْرُ مِنْ كَثْرَتِهِم ، وَلَا كَانَ هَذَا النَّصْرُ يَدُورُ لَهُمْ فِي خِيَالٍ، وَلَا يَخْطُرُ لَهُمْ عَلَى بَالٍ ؛ وَلَكِنَّ اللهَ قَدْ وَعَدَ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]
فَهَذِهِ هِيَ الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ»، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَفِي آخِرِ حَيَاتِهِ قَالَ: «لَئِنْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ -إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ- لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»، فَمَاتَ ﷺ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ حَرِيصًا عَلَى مُخَالَفَةِ الْيَهُودِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ وَافَقَهُمْ فِي صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَلَكِنْ أَرَادَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ أَنْ يُخَالِفَهُمْ بِصِيَامِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ مَعَ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ.
وَلَوْ صَامَ الْمُسْلِمُ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ لَحَصَلَ عَلَى هَذَا الْأَجْرِ الْعَظِيمِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُفْرِداً لَهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ؛ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِنْسَانُ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَصَام عَاشُورَاء وَحْدَهُ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَإِنْ وَافَقَ يَوْمَ السَّبْتِ . أهـ .
وَلَوْ صَامَ يَوْمًا بَعْدَهُ مَعَهُ لَـحَصَلَتِ الْمُخَالَفَةُ لِلْيَهُودِ ، كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ .
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى ، وَاحْمَدُوا رَبَّكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ إلَى التَّمَسُّكِ بِسُنَّةِ نَبِيِّكِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ ضَلَّ مَنْ ضَلَّ مَنْ الطَّوَائِفِ وَالْفِرْقِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ؛ حَيْثُ بَعْضُهُم شَابَهَ الْيَهُودَ ؛فَاتَّخَذَ عَاشُورَاءَ مَوْسِمَ عِيدٍ وَسُرُورٍ ؛ أَظْهَرَ فِيهِ شَعَائِرَ الْفَرَحِ كَالتَّجَمُّلِ وَالِاكْتِحَالِ ، وَالتَّوْسِعَةِ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْعِيَالِ ، وِطَبْخِ الْأَطْعِمَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ .
وَطَائِفَةٌ أُخْرَى اتَّخَذَتْ عَاشُورَاءَ مَأْتَماً وَحُزْناً وَنِيَاحَةً ؛ تُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ لَطْمِ الْخُدُودِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ ، وَإِنْشَادِ قَصَائِدَ الْحُزْنِ ، وَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ الْمَكْذُوبَةِ ! وَهَذَا كُلُّهُ عَمَلُ مَنْ ضَلَّ سَعْيُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ يُـحْسِنُ صُنْعًا .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّنَا ﷺ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا مَوَاطِنَ الزَّلَلِ وَالْخَلَلِ ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُخْلِصِيِنَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَلْقَوا رَبَّهُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.