المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الوسطية للشيخ سلمان العودة



برزان
16-12-2001, 23:01
بحث قيّم عن الوسطية للشيخ سلمان العودة
الحمد لله ، والصلاة على رسول الله ، وبعد :
الحديث عن الوسطية يستدعي الوقوف لتكوين مفهوم حول الماهية العلمية للوسطية ، باعتبارها منهجاً شرعياً بعث به سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أولاً.
وباعتبارها قانوناً يمثل أفضل صياغة للمعادلة بين العقل والنفس ، ثانيا .
ربما كان الاعتراف بصحة مفهوم الوسطية ، وتأهيله للتأسيس والصياغة في العلم والعمل ، يعد حقيقة مسلمة لا جدال حولها.
لكن هذا لايعني الخلاص من إشكالية الصياغة التطبيقية لهذا المفهوم ، والتي يقع حولها الاختلاف بين كثير من الإسلاميين اليوم.
بل إنك إذا نظرت إلى التاريخ الإسلامي ، وبخاصة التاريخ العلمي المعرفي ، وجدت الإشكال في صياغة المفهوم الوسطي من أكبر العقبات التي تواجه أصحاب الاهتمامات المعرفية في تاريخ الأمة.
إن الجدل حول جدوى هذا المفهوم الأصيل ( الوسطية ) ، لم تكن قائمة قط حول التسليم به من حيث المبدأ ، لكن كان مثار الجدل الخلاف حول الصياغة العلمية التأسيسية ، أو حول النموذج التطبيقي ، ومحاولة تحديد المدلول الشرعي والقلي للوسطية في هذين الجانبين.
فمع القبول العام بمبدأ الوسطية والتسليم به ، إلا أن تحديد الرؤية الشرعية الواضحة لهذا المبدأ ظلت مثار جدل.
وربما يكون من اليسير رؤية الخلاف في التطبيق في مساحة العمل الإسلامي اليوم والذي قد يصل إلى حد التناقض في العمل والأهداف ، والذي يقوم على تسليم نظري على الأقل بالوسطية.
نعم . ليس بالضرورة أن الخلافات هي نتاج مفهومات قبلية مسبقة ، فقد تكون في كثير من الأحيان إفرازات للمحيط الاجتماعي والنفسي و السياسي والاقتصادي .....إلخ.
وعلى أي حال فإنه يمكن التأسيس لرؤية ناسبة لهذا المفهوم الشرعي الشمولي في العلم والتطبيق ، من خلال التأمل في الحديث النبوي الذي رواه البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه ، حيث قال:
( باب : الدين يسرٌ ، وقول النبي صلي الله عليه وسلم : أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ).
ثم ساق بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن هذا الدين يسرٌ ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ).
فهذا الخطاب النبوي يمثل صياغة شرعية للوسطية.
وربما كان من المهم الإدراك بأن كثيراًمن الصياغات التي يؤسس بها لبناء مفهوم ثابت ، قد تتحول تحت تأثير واقع معين ، ورؤية اجتهادية خاصة ، إلى أسس مناقضة للمفهوم الشرعي بدلاً عن كونها أسساً بنائية فيه.
وهذه مشكلة ربما تواجه أي مفهوم ثبوتي آخر ، يكون من المسلمات المتفق عليها لدى جميع الأطراف ، لكن يقع الإشكال في فهمه وصياغته ، واستئثار كل طرف بتعريفه الخاص ، ونموذجه الخاص.
إن المفهوم الثبوتي لأي مسلمة أو مبدأ شرعي يحسن أن يحدّد ويؤكد من خلال معانٍ وأصول وقواعد ثابتة ، لا أن يحول إلى صياغة اجتهادية مطلقة.
لأنه حينئذ قد يتحول إلى نموذج طبيقي لا يؤمن إلا بمفهومه الخاص .
وهنا نرى أن كثيراً من الأشكال في العمل الإسلامي اليوم لا تعترف بغير المفهوم الخاص الذي تنادى به.
وصار يتولد من كثير من المفاهيم والمسلمات الثبوتية صياغات تمثل رؤية واحدة لا تؤهل للتعامل مع أشكال العمل والدعوة.
إنه ليس من الضروري ، بل ولا من الممكن ، القدرة على صياغة رؤية شمولية مؤهلة لاستيعاب سائر الأنماط العلمية والدعوية في الأمة.
ولكن الضروري والممكن أن يطرح للاستيعاب العام لأهل الإسلام ، ولا سيما أصحاب العلم والعمل والدعوة هو المنهج العام ، وأخص أشكاله لمقررة : مفهوم الوسطية ، ومدلوله الشرعي العام.
ولن يحظى الفهم العام للوسطية بالإجماع نفسه الذي يحظى به المبدأ الأصلي؛ لأن الفهم اجتهاد تفصيلي ، وثبوتية المبدأ لا تستلزم ثبوتية الاجتهاد في فهمه وتحصيل معناه.
ولذا يحسن أن نفرق بين ثلاثة مستويات هنا :
الأول : الإيمان بالمبدأ باعتباره قاعدة شرعية ضرورية.
الثاني : فهم القواعد الشرعية المتعلقة بهذه المبادئ الثبوتية.
الثالث : الفهم الخاص المبني على الاجتهاد في إمكانية معينة.
فهذا المستوى الثالث لا يحظى بالتسليمية المطلقة التي يحظى بها المدأ الأصلي ، ويحظى بها الفهم العام المبني على القواعد الشرعية.
والرؤية الخاصة الاجتهادية لفئة أو طائفة لا تحتمل القداسة والثبوت المطلق بل هي على أحسن الأحوال: صواب يحتمل الخطأ.
وهذا التفريق ضروري لجهة معالجة الإشكالات التي تـثور اليوم في كثير من مجالات العمل والعلم والدعوة في الواقع الإسلامي ، حيث يعزى معظمها إلى فرض اجتهاد خاص ، لأنه مبني عندهم على مبدأ عام مسلّم ، وهنا يقع الخطأ في عدم التفريق بين المدلول القواعدي الكلي ، وبين المدلول الاجتهادي الخاص .
وربما يكون ذلك أحياناً صياغة جديدة معاصر لأنماط التقليد والتعصب بين أهل الإسلام ، وترسيم لها بأسماء ذات قيمة مطلقة شرعية ، أو بأسماء مصادمة للتقليد في أصلها .
إن تأكيد رسم المشكلة وتحديد موضع الداء ضروري ؛ لأن عدم فهم صورة الإشكال وموضعه يترتب عليه عدم فهم إمكانية التصحيح وطريقه .
وإذا أخذنا الحديث النبوي المتقدم يمكن بصورة تقعيدية أن يقال :
الدين يسر ، واليسر هو الوسط ، فالدين وسط ، والأمة وسط ، كما نطق التنـزيل .
وهنا نرى النبي صلى الله عليه وسلم رسم قواعد الوسطية على التحقيق :
1 / السداد في قوله ( فسددوا ) : إن السداد هو صابة عين الشيء وتسدد السهم إذا أصاب غرضه وهذا يعطي أن الوسطية والتيسير لا يعني تجاوز القصد الشرعي والتحقيق لأحكام الشريعة على وفق الدليل من الكتاب والسنة ، وأن الوسطية والتيسير لا تعني التهوين من شأن حدود الشريعة وعصمها والاتباع لما تهوى الأنفس في منهج الدعوة والقضاء والإفتاء والتعليم بل والتعامل مطلقاً .
إن من يفتقد الاتصال الجاد القاصد إلى أحكام الشريعة وأدلتها فهو يفتقد أحد قواعد الوسطية النبوية
2/ لما كان وضع القاعدة الأولى ( السداد ) قد يوحي أو يولد عند بعض من لا يتمتع بسعة في الفقه والمعرفة حكمة الشريعة ومقاصدها قدراً من الإلحاح في المطالبة بتطبيق الرؤية الواحدة الاجتهادية واستتمام تطبيق الأحكام الشرعية في الذات والغير ، جاء قوله : ( وقاربوا ) ليرسم قاعدة مكملة للقاعدة الأولى .
إن السداد لا يكون ذا إمكانية في التحصيل والتطبيق إذا لم يصاحبه إيمان بقصور النفس والعقل عن رتبة الطلب العليا مهما كان وضوح الشريعة فيها .
إن الله خلق آدم خلقاً لا يتمالك كما في الصحيح عن أبي هريرة .
وهنا يعلم أن النفس الآدمية ليست نفساً تمامية إلا بنوع من العصمة والاصطفاء الإلهي ، ولهذا جاء قوله : ( وقاربو ) والمقاربة ليست هي ( التمام ) .
بل يتحصل إن فرض قاعدة ( التمام ) في المفهوم الشرعي للوسطية يعد من أخص المناقضات لهذا المفهوم الشرعي ، هذا في التمام الذي هو شرعي ثبوتي فكيف التمام فيما هو محصل اجتهادي .
إن الوسطية تعني لزوماً الاعتراف والإيمان بعدم لزوم التمامية بل عدم إمكانيتها .
3/ ولما كان اعتبار الوسطية بهذين الأصلين ( السداد – والمقاربة ) ، قارنهما قاعدة ( البشارة ).
إن الأصلين ، الأول والثاني ( السداد – المقاربة ) هما البناء العلمي لهذا المفهوم الثبوتـي ( الوسطية ).
ثم هذه القاعة ( البشارة ) هي البناء المحصل لتجاوز الأزمة الذاتية الشخصية الولائية .
إن الدين والعمل له لا يجوز أن يتحول إلى مجالات ولائية خاصة ، ومن الغلط أن يكون العمل الإسلامي استجابة ولائية ساذجة لحزب أو جماعة أو دائرة أو غير ذلك .
وبقدر ما نؤمن بعمل إخواننا في الدوائر والجماعات القائمة على اتباع الكتاب والسنة والدعوة إلى دين الله نؤكد رفع مقام دين الله عن الأثرة الولائية.
فالعمل للدين هو استجابة لله ورسوله وهنا ترى أهمية قوله "وأبشروا".
إن كثيراًَ من أشكال الخلاف والإقصاء هو نتيجة لموقف ولائي لايمثل عند التحقيق لزوماً شرعياً . ومن هنا صار من قواعد الوسطية ربط العمل لدين الله بمقصد وجه الله سبحانه وحده.
إن تمت فرقاً بين المطالبة بقطع الصلات الولائية ، فهذا ليس من العقل ولا من الشرع ، لكن لا يجوز أن تتحول التجمعات الإسلامية الكثيرة اليوم إلى مقاصد ولائية يصاغ المفهوم تحت تأثيرها . إن المفهوم الشرعي لأي قضية يفترض أن يكون متعالياً على المقدرات الولائية الخاصة بقدر الإمكان.
4 / "واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" إن من قواعد الوسطية اعتبار القدر الممكن من العمل في ذات الشخص وفي محيط الدعوى والتزام هذا القدر .
إن الوسطية تعني أن يعمل كل لما خلق له ، وأن يتحقق الترفع عن مقام التعاند على الأشكال الممكنة.
ومبدأ الإمكان في العمل يرشح كثيراً لمبدأ الإمكان حتى في المفهوم والتطبيق.
ومن هنا كانت المحافظة على قدر من العمل المؤسس شرعاً يستدعي لزوم الاعتراف بضرورة العمل مع إدراك محدودية الإمكان.
وهذا يحصّل فرصة جيدة للإيمان بتعددية العمل الإسلامي في شتى أشكاله ، ويجب ألا يتناول الإقصاء إلا من خرج عن أصول الشرع الثابتة المتحققة باعتبارٍِ عِلمي لازم وليس بمأخذ اجتهادي خاص.
وربا كان من المشكل أن كثيراً لا يحصلون مفهوم الوسيطة إلا بتجاوز أحد هذه القواعد النبوية الأربع.
فقد ترى من يتجاوز القصد لمقام الشريعة على التحقيق والعناية لدعوى وسطية يراها ، فسيح في مفهومات غامضةٍ لا حدود لها .
وفي مقابل ذلك ترى من يبالغ في المطالبة بالتمام مع أن الشارع قصد تحقيق المقاربة فيما هو شرعي فكيف باجتهاد خاص يصر عليه كثير من أهل الإسلام اليوم ، ويبنون عليه إقصاء من لم يحقق توافقاً مع اجتهادهم فضلا عمن يخالفهم ، وهنا يؤسِف أن الإقصاء يكون باسم أحد الثوابت المبدئية كالخروج عن الوسطية أو اتبا الكتاب والسنة أو اتباع السلف وأمثال ذلك.
ولا يحصل هنا تفريق بين لزوم المبدأ ، وعدم لزوم الفهم الخاص فيه .
ويقع التنازع بين الأطراف بدعوى تحقيق المبدأ مع الغفلة عن أن المخالفة لم تقع للمبدأ وإنما وقعت لاجتهاد خاص.
إن افتقاد الكثير من أصحاب العمل الإسلامي اليوم للفهم الشرعي الصحيح للوسطية جعل كثيراً من صور العمل الإسلامي تتجه إلى الرؤى المتقابلة فصار قانون التضاد يمثل واقعاً في الأعمال الإسلامية بقدرٍ كان ينبغي ألاّ يوجد ، مع أنه بحمد الله لا زال في أهل الإسلام ودعاته خير كثير واعتدال محمود.
nربما كان من المفيد ألاّ نشعر بأن حل مشكلة عدم تحقيق الوسطية تكون بإلغاء التعددية القائمة في العمل الإسلامي اليوم.
هذا ليس ضرورياً فيما أرى ، فضلاً عن كونه ليس ذا إمكانية تطبيقية بل من المناسب محاولة جعل هذه التعددية قوة تكاملية لاستيعاب سائر الفروضات.
إن الوسطية لا تعني إلغاء التعددية بل تعني تقريرها وترشيدها وربما كان هذا مفهوماً صعباً عند كثيرين ، لكنه إذا تحققتَ في أصول الشريعة وقواعدها وجدته واضحا في هدي الرسول صلي الله عليه وسلم وخلفائه وهذا باب واسع لا يستوعب الأمة سواه ، وقد مدح الله تعالىمن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، والأحسن يختلف من حال إلى حال ، ومن زمان أو مكان إلى آخر ، ومن شخص إلى آخر ، وقد جعل الله للأمة مندوحة في دائرة الاختيار ، ومع التسليم بترجيح أن الحق واحد في مواطن النزاع كما اختاره جمهور الأصوليين إلا أن القول بكونه في هذا الفريق أو ذاك محل اجتهاد والعبرة بحجة الشرع وقواعده ومعاقده ، وليست بتوفر القناعة الذاتية لدى هذا أو ذاك .
نسأل الله أن يهدينا إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين ،،،


سلمان بن فهد العودة

نقلا عن مجلة العصر